- كُل المَصائِبِ تَهُون إلا مُصِيبَةُ الفَقد؛ تَظلُ جِراحُها عَالقةً في القلبِ لا تَندمل، ولا يستكينُ ألمها حين تشرع أبوابُ الحنين. الفَقد فاجعةٌ تَحِلُ على القلب فتخسفُ بهِ حُزنًا؛ بل خنجرٌ يغرسُ نفسهُ بعمقٍ في نفسِ الإنسان ليحرمه سعادته؛ ولولا أن الله أنعم علينا بنعمةِ النسيان لاستباحَت سعادتنا فَواجع الفَقد، ولأصبحنا صرعَى للحنين، رُهناء الشوق المميت لموتانا، وعلى الرغمِ مِن مُرورِ غيمةِ النسيان على قلوبنا إلا أن سحائب الذكرياتِ على عواتقنا تُمطر؛ لتدمع دواخلنا كبدًا؛ فحين يخالجنا ذاك الشعور يفتحُ لنا الحزن مصراعية، لتمر طيوف الراحلين على قلوبنا قبل أعيننا، ويتجددُ ذلك الألم كوخزٍ يُلامسُ أيسرنا؛ ولا يُواسي المُسلم المُؤمن إلا علمهُ بيقينٍ أنّ بعد هَذا الفِراق لِقاء، وإن هذهِ الدنيا التي نحنُ فيها ما هي إلا محطة إما أن نتزود منها لسفرنا القريب البعيد بما يضيء لنا درب الوصلِ إلى غايةِ المؤمن، اللبيب، الحريص على نفسه من أن يقع فيما نهى الله بهِ عباده وحرمه عليهم، ومقبل بجوارحه وشواهده على ما يقربه من رضا مولاه.
إن الفطن من عاش في الدنيا يبني منزلهُ في الآخرة، لا مستسلم، ولا مُسلم لرغباتِه ونزواته يأخذُ نصيبهُ منِ الدنيا، ويروض نفسه على الطاعات.
فإلى تلك الدارِ رحَلت الأم وبقى أثرها في قُلوبِ أبنائها طيفًا لا يُبارح قُلوبهم، وصَدى صَوتها عالقٌ في آذانِهم من كل زوايا المنزل، ومستشعرين انسياب رائحة أمهم الزكية؛ لتشعل قلوبهم بالحنين، ودواخلهم بشوقٍ دفين.
أيُ فقدٍ قد يُعاني مِنه الإنسان أشد من فقدِ من احتوته بحنانها منذ أيامه الأولى عن سائر من يفقدهم الإنسان في حياته إلا أن فقد الأم لا يُضاهيه فقد، ولا يدانيه رحيل، ولا يوازيه حزن، ولا يواسيه دمع، ذاك الألم الذي يكاد يأخذ بنياطِ القلبِ ويجتثيه عن موضعهِ، وتُرسبل الأحزان في صدره، وتتخذ منه موطنًا، وتكون معاركُ النسيانِ هشةً أمام تلك الجُموع المحتشدة التي تغزو دواخل ذلك الابن الذي لم يفقد أمه فقط، بل فقد أمةً مجتمعه ممن يحب.
تِلك الروحُ التي جَمعت الشَمائل، وذلك الذي إذا ألمَّ بِه الخُطوب العظام كان حنانها إليه الدفء والملجأ، والتي بلمسةٍ من كفيها جروح قلبك تطيب، وإن حَلَّ بك خَطب وأضنتك الكواهل كان نسيمها الشفاء العليل، ووجودها النهر العذب. عن الأم أتحدث أما عن مرارةِ فقدها لا أظن أن حرفي سيجد لوصفِ ذاك الشعور منفذ، ولا لذاك الوصفِ سبيل.
إرسال تعليق