U3F1ZWV6ZTE4OTE5ODMyNDAxMDQ5X0ZyZWUxMTkzNjI2NjI5MjY0OQ==

الورقة| زينب الحداد

الورقة 


- قضى ليلته في انتظارِِ طويل ، كانت عقاربُ الساعة تدق في رأسه ، أرَّقه التفكيرُ وتناثرت أمامه أعقابُ السجائرِ ، مثلما تناثرت أمامه أفكار لم يستطع التحول عنها . لم ينم ليلته منذ وقعت عينه على ورقتها ، كانت ورقتها هي الورقة الأخيرة من أوراق الاختبار التي كان يضع علاماتها لطلابه

وفي الصباح توجه للقاعة وقد وضع ورقتها أولى الأوراقِ جميعا ، كان متلهفا لِرؤيتها ، هل هي طويلة أم قصيرة ..؟ تشبه مَن ..؟ ما لونُ عينيها ..؟ 

حدَّث نفسه كثيرا :
 _لو كنت أعرف أن الاختبار سيوصلني إليها لكنت فعلت ذلك في وقت مبكر ، سنواتٌ مضت ولم أركِ فيها قط .. وها هي الأقدار جاءت بكِ إلي ، بل جاءت بي إليكِ يا حبيبتي ، نعم جاءت بي من أقاصي الأرض بعد اغترابِِ طويل .
      ها هو يدخل قاعة الدرسِ ، ثم يبدأ بورقتها ، ها هو يقول اسمها ملء فيهِ ، يقوله حرفا حرفا ، يتذوقه كما لو كان يتذوق قطعة حلوى ، لكنها لم تأتِ ..
لم تمتد يد إليه ، فكرر الاسم مرارا وقلبه يقول:" هيا اظهري..تعالي " لكنها لم تأتِ ، هل هي مؤامرة الحظ السىء ..؟! هل يتعين عليه أن ينتظر يوما آخر مقداره "ألف سنة" وضع الورقة أمامه فظل واجما للحظات ، تمتم بكلماتِِ لا يكاد يسمعها غيره ، وتلك الأوراق أمامه ، تمنى لو أنها تُطوى جميعا إلا ورقتها ، أحدهم تكفل في توزيعها ، وظلت ورقتها أمامه ،لا يرى سواها . سأل نفسه : هل سَتَغفِر لي هذا الغياب كله ..؟!هل أنا مُلام ..؟!
      مضت بضع دقائق وهو يرى القاعة أمامه خالية ، لا يكاد يفقه شيئا مما يقول ، وبعدها طُرِق الباب  بطرقات خفيفة ، طَرَقَ قلبهُ معها ، أشار إلى أحدهم : "أن افتح الباب" قال الفتى : لقد جاءت .
      ها هي إذا فتاةٌ عشرينية... زاد اضطرابه ، وتسارعت نبضات قلبه ، أراد أن يقف لكنَّ قدماه لا تحملانه. ظل مشدودا إلى كرسيهِ ، وهو يرقبها ، وقد بدت ابتسامة هادئة وعينان لامعتان تُنبئانِ عن الذكاء... سارت إليه بعد أن أشار إليها زميلها أن تتجه نحوه ، استغرقت بضع ثوانِِ ، لكنه تمنى لو تُطوى تلك المسافة لتصل إليه سريعا ، لم يقل شيئا تسمرت عيناه على وجهها ، إذ لاحظ الجميعُ ارتباكه وذهوله...
أدرك الآن حجم المسافة السحيقة التي فصلته عنها ،كرر في نفسه: هل ستغفر لي ..؟
قطعت شروده: 
_صباح الخير دكتور ... 
متباطِئٌ في رده ، كأن كل شيءِِ فيه شَارَفَ على التوقف ، إلا قلبه الواجف .
_مرحبا بكِ .. تفضلي هذه ورقتك.
تمد يدها لأخذها،لكنه يثبتها بأطرافِ أصابعه على الطاولة .
_انتظري ، لدي سؤال .
_تفضل .
_ما اسم أمك ..؟
لِم..؟!
ابتلع بقايا اللُعاب المتبقية في فمه :
_مُجرد سؤال ..هلَّا أجبتِ من فضلك .
كان هذا السؤال هو الذي سيقطع به الشكَّ باليقين ، هو الشيء الذي لا يمكن أن يكون  تشابها إلى هذا الحد الكبير، وعندما أجابته صُعِقَ ، بل صَفَّقَ قلبه فرحا ، وحلَّقت روحه عاليا ... هتف بها :
_أنتِ.. أنتِ هي ..
واستدار من خلفِ طاولته_ كطفلِِ وجد ضالته_ لِيقف أمامها ، لا يفصله عنها شيء ، وقد وقفت أمام انفعاله ذاهلة ، لاتفهم مالذي يحدث ، ومالذي حدث ...
      وعندما مَدَّ يديه للمسها ارتعدت وابتعدت خطوتين إلى الوراءِ بعد أن نهرته.
      كان قد نسيَ أنه في قاعة الدرسِ وأن الطلابَ أمامه ، نسيَ كل شيء ؛ خرجت من القاعة مغاضبة ، فتبعها على عجل ، وقد غرقت عيناه بالدموعِ ، يصرخ خلفها :
_انتظري يا ابنتي ..لِم تهربين ؟! إني أبوك.
تجمدت قدمها في الهواء ، لكنها وطِئت الأرضَ واستدارت نحوه ، كأنها دورة كاملة حول الشمسِ ، وها هما يلتقيان لأول مرة .


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة