في فَنِّ المفاوضاتِ النفسي(1)
المفاوضاتُ لها شروطٌ نفسية، والمفاوضون الرديئون على المستوى النفسي وعلى مستوى المهارات يدفعون ثمنا باهظًا.
في العوامل النفسية للتفاوض إذا اعتبر المفاوض أنه سيدخل المفاوضات تجنبًا للنزاع، فهو يقدم نفسه سلفًا سلعة للطرف الآخر في المفاوضات، وإذا اعتبر أنه ليس من طبيعته أن يكون مفاوضًا قوياً فهو يقدم نفسه كمفاوض ضعيف سلفًا. وإذا دخل المفاوضات وهو يخشى على شيء لديه فهو مؤهل نفسيًا لأن يخسر ذلك، أو أن يخسر المفاوضات.
إن معرفة المفاوض بقواعد التفاوض هي أفضل طريقة لإبطال مفعول الخوف من التفاوض. وتُجْمِعُ كل المراجع على أنّهُ من الأفضل التفكير بالمفاوضات على أنها [لعبة] (Play) كما على أنها ممارسة.
فبعد أن تفهم قوانين اللعبة عليك أن تتعلم فنون تكتيكية جيدة وأساليب لإتباعها في اللعب والفوز، ولا مانع من أن تبتكر أساليب جديدة والأهم أن يكون نطاق مناورتك واسع.
أساسيات المفاوضات النفسيّة:
إطار تفكيرك يجب أن ينطلق من مقولة رددها أمام نفسك والآخرين، وقُل:
أنا الأقوى في هذه المفاوضات، وأن الحق ينتصب إلى جواري، ولكن عليك أن تتصرف بنزاهة وأمانة أثناء المفاوضات حتى لا تُعَرِض المفاوضات للانهيار جراء عنادك التفاوضي. وبالمناسبة المفاوضات ليست عنادًا ولكن عليك أن تُظهِرَ أنك عنيد ولو ظاهريًا، وبالمناسبة لا تُقنِع نفسك بالعناد فهو مجرد صورة خارجية؛ ستقدم شيئًا ما كي تأخذ.
عندما تضع لنفسك أهدافًا طموحةً جدًا، أي ترفع السقف التفاوضي؛ فإن ذلك يجعلك تحقق أفضل النتائج! فأنت لن تحقق الأهداف الطموحة دون أن تكون أقوى المفاوضين.
لا تُشعِر الطرف الآخر بأنه يخسر حتى إن فزت أنت بالجزء الأكبر من الصفقة وحصل على الجزء الأصغر منه، عليك أن تُشعِره بأنه هو الفائز وأنه قد حقق شيئًا كبيرًا، بمعنى أنه ليس عليك أن تقوم بإهانة الطرف الآخر بل عليك أن تتصرف معه بأمانة ونزاهة.
وتَذَكَر أن أغلب الناس يحترمون المفاوضين الأقوياء، وعندما تكون قويًا سيشعر الطرف الآخر بالفخر عندما يحقق صفقة مقبولة معك حتى وإن حصل على جزء صغير، المهم أن تعطي بلا منَية وأن تُشعِر مفاوضك بأنه يأخذ شيئًا مهما وأنه محترم.
حاول استخدام قاعدة الطبيعة البشرية التي تقول: «إن أغلب الناس تميل إلى تجنب النزاعات والخلافات وأنهم يمَلُون الحروب الطويلة»؛ ولهذا أَشعِر مفاوضك كم أنه سيكون قد حقق شيئًا مهمًا بل واستثنائيًا لمجرد أنه تجنب النزاع أو أوقفه وأنهى الصراع.
إن أفضل نتيجة يمكن أن يُحَصِّلَها مفاوضٌ أمامك هو أنه أنهى الصراع، لذلك عليك أن تعطيه شيئًا يريحه نفسيًا جراء إنهاء الصراع كالشعور بالاستقرار أو ضمان حب الحياة والتركيز دائمًا على تجنب الموت.
نعم، عليك نفسيًا أن تُهَيئ نفسك لأهدافٍ طموحة، ولكن عليك في عمق ذاتك أن تضع أهدافًا معقولة؛ لتصل إليها فأنت لن تأخذ كل شيء والمفاوضات الناجحة هي التي تعترف للطرف الآخر بحقوق معقولة.
عندما تبدأ المفاوضات استرخِ واستمتع بها، وأقنِع نفسك دائمًا بأنه لن تكون هناك أضرار على المدى الطويل مهما بالغ الطرف الآخر في مطالباته أو استعراضاته أو محاولاته لفرض إرادته. تذكر أن هذه لعبة.
افصل بين ما يقوله ويطالب به الطرف الآخر، واستفزازاته وبين شخصك وتذكر أنه يفاوضك على موضوع وليس على شخصك أو كرامتك، وأنت مسؤول عن المواضيع فكن موضوعيًّا.
إذا كنتَ غير مستعد لتحمل فكرة المساومة على موضوع محوري، فتذكر أن لا شيء غير قابل للتفاوض ولهذا عليك أن تسأل الطرف الآخر بأسلوب مهذب ما هو أفضل ما تقدمة لي مقابل ما تطالب به.
وعندما يقدم لك أي مقابل ارفضه؛ لكي تصل إلى رفض المساومة بحد ذاتها فتكون قد رفضت دون أن تُشعره بأن ليس كل أمر قابل للتفاوض، إنما الثمن الذي قدمه هو الذي لا يعادل ما يريد أن يأخذه.
اعتبر في داخلك أن أي مساومة هي معركة إرادات، وأن عليك أن تكسر إرادة الآخر وألا تكون عاطفيًا، فعليك أن تتعامل مع المفاوضات على أنها لعبة لإقناعه بأن الطريقة الوحيدة لإتمام الصفقة هو أن يوافق على أحد عروضك وبهذا تهيؤه نفسيًا بأن لا خيار له إلاها، وهنا يمكنك أن تستخدم المناورة التفاوضية التي تقول: «إذا لم احصل على ما أريد فأنا سأوقف المفاوضات»، ولكن إياك أن توقفها فعلًا إلا لتبدأها من جديد، فالمهم هو الوضع النفسي لدى الطرف الآخر شرط ألا يكشفك فمعيار نجاحك هو قدرتك على إخفاء أنك تمارس لعبة، فقليل من التمثيل لا يضر أبدًا، وهنا عليك أن تتدرب على نظرة الدهشة التامة عندما تسمع عرض خصمك الافتتاحي بتمثيل هذه النظرة، ولا مانع من شيء من الفكاهة حول ما يقدمه شرط عدم إهانته، إذا يجب أن توجه الفكاهة على موضوع ما يقدمه وليس على طريقته أو شخصه وهنا تُفَكِكُ عَرضَهُ دون أن تسفهه.
عندما يقدّم لك عرضًا حتى وإن كان مقبولًا لديك، فاذكر له عيوبه أو تمنى عليه لو أنه قدم لك معه أشياء إضافية تذكرها بالتفصيل فتثقل عيوب نقص ما قدم وترفع في الهواء ما قدمه كما لو أنه بالون خفيف.
شجع خصمك على الشعور بأنه مهما قدم لك فإنه رابح لمجرد إشعاره بأنه سينال فرصة كبيرة بالعمل معك مستقبلًا.
خذ وقتك ولا تستعجل التوصل إلى النتائج؛ فالمساومة لعبة اقضم فيها الوقت واربح الزمن، فالوقت أي الدقائق والآنيات ضدك والزمن معك، لا تفصح عما لديك، كن رجل الربع ساعة الأخيرة، اترك الطرف الآخر هو الذي يعرض ويقدم ولا تقدم أنت شيئًا مما أنت مستعد لتقديمه مبكرًا.
لا تنخدع بمقولة خصمك بأنه قد قسم معك وقابلك في منتصف الطريق وأنه يطالبك بالقيام بتقديم مقابل لما قدمه، اعتبر عرضه هذا هو عرضه النهائي وتابع المساومة من هذه النقطة، بمعنى إذا اقترب منك فعلًا إلى منتصف الطريق أَشعِر بأنه لا يزال في نقطة البداية.
قدّم تنازلات صغيرة قدر الإمكان، ولكن أوحِ نفسيًا لـلا وعيكَ بأن مرونتك قد وصلت إلى نهايتها، بمعنى أن تجعل تنازُلاتك تتدحرج لتصبح أقرب فأقرب إلى التناهي نحو الصفر، ولكن لا تتقمص هذا الدور طويلا؛ "فأنت مطالب بأن تقدم شيئًا ما في نهاية المطاف"، المهم أن يكون أقل قدر ممكن من ما يُقَدَم.
الصمتُ تكتيك عظيم، ولكنه من الزاوية النفسية التفاوضية شيء غير مريح ولكنه شيء مهذب، وليس هنالك شيء أكثر تهذيبًا للضغط عليه، فقط اجلس بصمت ووَجهُك يعكس أنك تفكر فيما يعرضه الطرف الآخر؛ فيتفانى بصمتِك هذا لجعل ما يقدمه أكثر إغراءً بتقديم المزيد فيه، ولكن ليس عليك أن تُظهِرَ القبول لأنك يجب أن تُشعِره بأن قبولك بما قدمه هو أمر جاء بعد طول عناء.
حاول ألا ترتبط عاطفيًا بموضوع المفاوضات لا من حيث التشبث به حبًا وكرامة، ولا من حيث الشعور بأنه ليس له قيمة كبيرة، فكل موضوع في المفاوضات كبير جدًا، وهُنا لنَفْصِل بين مشاعرنا وذواتنا، وموضوع مفاوضاتنا هو مجرد موضوع خارجي، أي مجرد مادة تفاوض لا تحبها ولا تكرهها ولا تتمسك بها ولا تتركها، افصل بين مشاعرك وبين كل ما سبق.
لا تغضب أبدًا، استخدم غضبك المصطنع كمادة للمساومة للعودة عنه وتحصل بالتالي على تعويض فالغضب انفعال والتفاوض لا يجوز فيه الانفعال.
لا تكن غير عقلاني أبدًا؛ فهنالك خيط رفيع جدًا بين مطالباتك الطموحة والمطالبات غير العقلانية، فأنت لن تحصل على المريخ من خلال المفاوضات بل يجب أن تحصل على الأرض؛ أي طالب بأقصى حد ممكن وليس بالمستحيل.
لتهيئة خصمك للبدء بسلسلة تنازلات أشعِره بأنك تنتظر منه أن يفتَتِح المفاوضات، وأن يطرح ما يمكن أن يقدمه لك. هنا أنت تكون قد دخلت في المساومة على ما لدى الطرف الآخر وليس على ما لديك.
تصرف بطريقة تَنُم عن الثقة بالنفس، ولكن بدون عنجهية أو تكبر؛ حتى لا يستفز أو يهان، فالثقة بالنفس تجعله يصدق أن لديك من قوة التفاوض ما لا يجب أن يستهين بها، وأَشعره دائمًا بأن لديك قوة خفِية تقف وراء ثقتك بالنفس، فالغموض هنا بناء لأنه سيشعر بأن هنالك ما يستدعي أن يُقَدم لك مقابل تلك القوة الخفية.
يجب أن يتمَتَع المفاوض بخليط من الثقة وسحر الكاريزما، والقدرة على المنافسة معًا، فهذه الصفات الثلاث هي الوصفة التي تنال من الخصم أثناء التفاوض، ولكن على أن تكون جذابًا وليس مُنَفرًا، فابتسم بين الحين والآخر، وأَلقي فكاهة عندما يتوتر الموقف، شرط ألا تكون الفكاهة تتعرض إلى الشخص الآخر، ثم عد فور انفراج أساريره إلى المبادرة ببدء الحوار على أُسُس أنت تحددها بناءً على ما قدمته له نفسيًا، فجعلَه تنفرج أساريره يجب أن تقبض ثمنها لاحقًا.
لا تعط شيئًا دونَ مُقَابِل أبدًا حتى لو كنت مستعدًا لأن تقدم ذلك، اطلب تنازلات ولكن في التوقيت المناسب عندما تشعُر بأن خصمك قد بدأ باللين واستثمر بسرعة لحظة لينه.
تذكر أنه على المستوى النفسي، أن خصمك على الأرجح يكره المخاطرة وأشعِره بأنه لا يخاطر معك من خلال عرض تعويضات لكل شيء سيقدمه، وركز على التعويضات النفسية فهي تسيل لعابه لأنها تتحكم بمركز الانفعال لديه فيتعطل مركز المنطق ويلهث وراء ذلك الانفعال النفسي، والأهم أن تقدم له شيئًا يُشعره بالمكاسب التي تثير الطمع النفسي والغرائزي كحب الحياة والمزايا المالية استدعاءً للرفاهية إلى لا وعيه، كثمن مقابل ما سوف يقدمه لاحقًا واربطهما معًا بحيث يشعر بأنه يجب أن يسرع في أخذ ما يُقَدَم له؛ لأهميته القصوى على مستوى حياته وحياة من هم معه.
تذكر على المستوى النفسي أنه مهما كانت بدايات المفاوضات صعبة فإن الطرف الآخر سينحني لك في نهاية المفاوضات بقدر نجاحك معه.
قاوم إغراء قيامك بممارسة ألعاب سخيفة في التفاوض، كإظهار التفاخر بقوتك والجلوس في أماكن تشعرُك بالتفوق، أو بعدم التكافؤ في وضع الجلوس، حاول أن تشعِرَهُ بالتكافؤ ولكن من موضع قوتك وتذكر أن تكون مُضِيافًا في لحظات الشدة على الطاولة التفاوضية فهذا ما يكسرُ الحاجز النفسي ويجعله يتقدم خطوات إنسانية، أي يلين.
لا تَدَع مجالًا للمفاجآت أن تدهشك أو تربكك؛ لأنها يمكن أن تُخرِجَ المفاوضات عن السيطرة فعلى سبيل المثال إذا كنتَ تعتقد بأن لديك سرًا ستُفاجِئ به مفاوضك، فإنه من الممكن أن ينكشف السر، ولهذا جَهِز ردَّكَ سلفًا بحيث لا تبدو مرتبكا.
يجب أن تتمتع بالمرونة النفسية وأن تتصرف في كل موقف تبعًا لظروفه.
اكسر صمت الطرف الآخر بسؤال قد لا يكون مرتبطًا بالمفاوضات مباشرة؛ لتدخل بعده بالنقاش الذي على أساسه يبدأ بتقديم ما لديه.
تَمَثَّل شخصية مفاوِضك، أي ضع نفسك مكانه دون أن تتعاطف معه، بل أن تتنبأ فقط بالطريقة التي سيرد بها خصمك على عروضك، انتبه من خطر التعاطف عندما تشعر بألم خصمك وتتلمس مشاكله؛ لأنك يجب أن تتم الثقة بحيث تكون لصالحك ولكن غَلِف النهاية بمشاعر إنسانية فالقاعدة التفاوضية هنا تقول: «إذا لم أرى الدموع في أعينهم فإنني أعرف عندها أنني لم أكن كفؤا كفاية في المفاوضات».
د. عماد فوزي
إرسال تعليق