"انطفاء العقل وأثَره في تدهور الحضارة الإسلاميّة"
(( إذا كان الواقع البشريّ هو محصّلة طبيعيّة للأفكار السائدة والنظام العقليّ المسيطر، فإنّ وضع العالم الإسلاميّ غير السارّ اليوم يعود إلى النظام المعرفيّ ( الابستمولوجيا ) والعقليّة التي تحرس شجرة المعرفة هذه، وهذا المرض الثقافيّ ليس ابن اليوم، بل هو محصّلة تراكميّة عبر القرون، الذي أورث العقليّة مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح، لعلّ أهمّها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقليّة )، وترتّب على حرمان العقل من الطاقة النقديّة التحريريّة ثلاث نتائج هامّة:
1 – الأولى: تحوّل العقل إلى ( حاوي فوضويّ ) لــ ( كمّ ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقليّة ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفيّ، فنمت ملكة الحفظ، وتوقّفت الوظيفة ( التحليليّة التركيبيّة ) والنقديّة للعقل، بل نسف كلّ مشروع لبناء معرفيّ مستقبليّ.
2 – الثانية: حرمان العقل من وظيفة المراجعة؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتيّ، أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها، بل وزحزحتها باتجاه الآخرين؛ بإحياء آليّة تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقّفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد، فتوقّفت عن تصحيح الذات، فوقفَ النموّ، فجمدت الحياة، وبتوقّف العقل توقفت الحضارة الإسلاميّة عن النبض الحيّ في التاريخ.
3 – الثالثة: ظنّ الاستغناء بالنصّ عن الواقع قاد إلى كارثتين: انتفاخ الذات المرضيّ، بأنّ المسلمين خارج القانون الإلهيّ، فلا ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكميّة ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه قل: فلم يعذّبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممّن خلق).
يعاني العالم الإسلاميّ اليوم من مشكلة ( تحدّي ) ثلاثيّة الأبعاد، وكلّ تحدّ يعتبر مشكلة عويصة بحدّ ذاتها، كأنّه لا أمل في حلّها، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه.
الأولى: عظمة الماضي وهزال الحاضر، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة، وكان دورهم في التاريخ قياديّاً رائداً، واليوم يمثّلون ليس مركز العالم، بل دول الأطراف العاجزة عن حلّ مشاكلاتها، فالألم عميق بين الهدف والواقع، بين الإمكانات والإرادات، وما يحدث في العالم الإسلاميّ اليوم دليل على عجز مروّع، وشلل مخيف في الجسم الإسلاميّ الممتدّ من طنجة حتّى جاكرتا.
والثانية: هي في الفجوة المعرفيّة التراكميّة بين قمّة العالم الحاليّ، وبين الواقع ( المعرفيّ ) في العالم الإسلاميّ، فالعالم الإسلاميّ لم يدخل المعاصرة تماماً ولم يتمكّن من أسرارها، بل هو في حال ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق، كما نسف الطمأنينة السابقة التي كان يحياها كلّها.
والثالثة: إنّنا عقليّاً ( دون مستوى القرن الثالث الهجريّ ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألّق في حلقات المسجد العلميّة، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره، ويصدر نتاجه العلميّ، فنحن لا نستطيع حتى بناء مناخ عقليّ يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون، فهم بنوا المعاصرة وعاشوها، ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا، فعجزنا ثلاثيّ المستوى: بين ما نريده، ولا نملك إمكاناته، بين الغياب عن التاريخ وما حدث فيه، وبين فقدان الذاكرة التاريخيّة كالمصدوم الذي نسي شخصيّته فلا يعرف من هو؟ فنحن لا نعرف حتّى ذاتنا!
والسؤال: كيف حدث هذا؟ ولماذا حدث؟ وفي أيّ ظرف تاريخيّ؟
لا يمكن معرفة واقع العالم الإسلاميّ المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخيّة ).
فالسقوط والتمزّق الحاليّ هو ثمرة لأفكار تشكّلت عبر القرون، ولذا لا بدّ أوّلاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها بعضاً، فلا يمكن فهم الحدث وحده، معلّقاً في الهواء، فعلينا إذن أن نتتبّع المسارات التاريخيّة لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلاميّ اليوم.
عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في إسبانيا كنت مهتمّاً برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة، وفي أثناء الجولة السياحيّة تأمّلت المنحدر الجرانيتيّ العميق للنهر، الذي يطوّق البلد كأنّه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه، كما تأمّلت الحصون الثلاثيّة المرتفعة التي شكّلت مناعة خاصّة للبلد، كلّفت الإسبان يومها حصاراً مديداً، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليديّة ) لشبه الجزيرة الايبريّة عام 1085 بأيديهم، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطوّر خطير في مصير الأندلس برُمّته، وهو انكسار التوازن الاستراتيجيّ في شبه الجزيرة الايبريّة لحساب الإسبان ضدّ المسلمين، الذين لم يدركوا يومها تطوّر المنحنى البيانيّ التاريخيّ ضدّهم، لأن خلافاتهم الداخليّة وصراع العروش الهزيل أنساهم حتّى هدير الطوفان المزمجر حولهم.
جاء في كتاب دول الطوائف مايلي: (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسيّة الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد.. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً، ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتاليّ، بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين، وقد كانت بمنعتها المأثورة، وموقعها الفذّ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشماليّ وسدها المنيع الذي يردّ عنها عادية النصرانيّة، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها، وانقلب ميزان القوى القديم، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوّقها في شبه الجزيرة، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون، وأضحى تفوّق القوى النصرانيّة أمراً لاشكّ فيه، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الإسبانيّة ( لا.. ريّ كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قويّ، وتتقاطر الجيوش القشتاليّة أوّل مرّة منذ الفتح الإسلاميّ عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لا تنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 )
كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشّي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس، فبعد أن غابت الدولة الأمويّة عن الوجود عام 399 هـ، بدأت عمليّة التفسخ الحضاريّ تأخذ مداها في الجسم الإسلاميّ مدة جيلين بالكامل، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد، وخلّد الشعر العربيّ تلك المرحلة بمثل:
(أوصاف مملكة في غير موضعها=كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد)
ولكنّ سقوط ( طليطلة ) بوجه خاصّ أدخل الفزع بشكل جدّيّ إلى مفاصل ملوك الطوائف، فهرعوا إلى الدولة الفتيّة الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين )، مع علمهم أنّ هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال، سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة: ( إن كان لا بدّ من أحدهما: فرعي الجمال أحبّ إليّ من رعي الخنازير ). وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحاليّة ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يحمل اسم ( ساكراخاس ) اليوم، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م، أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع، وفيها تمّ تمزيق الجيش الإسبانيّ بمجموعة من تكتيكات حربيّة استخدمها العجوز المحنّك والبالغ من العمر ثمانين عاماً ( بن تاشفين )، إلا أنّ هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الإسبانيّة، فالمرض في المجتمع الإسلاميّ كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك، لأن العفن كان قد وصل إلى نقي العظام، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجيّاً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة، فأدرك استحالة استردادها، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة، وبناء دولة مركزيّة مرتبطة بدولة المرابطين.
يتساءل باول كينيديّ في كتابه "القوى العظمى": (( لماذا قدر لتلك السلسلة التي لا تتوقّف عن النموّ الاقتصاديّ والابتكار التكنولوجيّ أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوّقة والضحلة التي تقطن الأجزاء الغربيّة من الكتلة الأرضيّة الآسيويّة الأوربيّة التي تحوّلت إلى الريادة العسكريّة والتجاريّة في الشؤون العالميّة؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين قروناً عديدة … ففي سبيل فهم مسار السياسة العالميّة يجب تركيز الاهتمام على العناصر الماديّة طويلة المدى لا على الأهواء الشخصيّة والتقلّبات التي تميّز الدبلوماسيّة والسياسة )) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق، ولكنّ العنصر البارز هو السيطرة على البحار، فبوساطته تمّ السيطرة على الثروة العالميّة، وتحويل قارّات بأكملها إلى المسيحيّة، وأمّا الانفجار العلميّ فجاء نتيجة جانبيّة لهذا التطور الجديد كلّه، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالميّ جديد، للغرب فيه اليد العليا ( 9 ) وهكذا ففي الوقت، الذي كان نجم الغرب يتألّق عبر الأفق، كان شمس الحضارة الإسلاميّة يغلّفها شفق المغيب، وهذا الليل كان ( منظومة الأفكار ) بالدرجة الأولى، وتوقّف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحاريّة من الأفكار، ونظم معيّن من ( العقليّة ) المتشكّل.
إذا كان ( طنين الذبابة ) عند أذن ديكارت أوحى له بـ ( الهندسة التحليليّة ) ( 10 ) في مجالس ( مارين ميرسين ) في بورت رويال في باريس، وسقوط ( التفاحة ) أوحت إلى نيوتن بقانون ( الجاذبيّة ) وأبريق الشايّ. الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة ( قوة البخار )، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة ( الكهرباء )، فإنّ العقل الإسلاميّ كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه، وإنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة من الرجال ؟!! ( 11 ).
وفي الوقت الذي كان الانكشاريّة يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب ( الأسس الرياضيّة للفلسفة الطبيعيّة – PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات، ويطُوِّر التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين، في حين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحال ( استعصاء تاريخيّة ) لم يتعافى منها حتّى الآن، وهي حال الشلل العقليّ، الذي أدخله الليل الحضاريّ، ليدخل في ( دارة معيبة ) يؤثّر كلّ طرف على الآخر سلباً، بين ( العطالة ) العقليّة و( العجز ) الحضاريّ.
إنّ الفوضى الاجتماعيّة في العالم الإسلاميّ هي ( فوضى عقليّة ) قبل كلّ شيء، وإنّ التنظيم الألمانيّ المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض، لذا فإنّ أعظم عمل يمكن أن ندشّنه هو تفكيك العقليّة الإسلاميّة، لمعرفة الآليّات المسيطرة عليها، والتي أعطبتها العطالة.
لذا كان الكاتب المغربيّ ( الجابريّ ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربيّ ) ( 12 ) ولعلّ أكبر نكبة مني بها العقل العربيّ هي مرض ( الآبائيّة ) ( إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كلّ تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقليّ.
يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابيّ أُصيب بالدهشة عندما أخبره ( l ) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلاميّ فيتبخر منه ( العلم ) !! فلم يستطع الصحابيّ تصوّر ذلك، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كلّ جيل، وينقله إلى الآخر، فأرشده ( l ) إلى أنّ هذا ممكن مع وجود القرآن ( 14 ) بسبب العقل المتعطّل، فلا يستفيد من أعظم الكنوز، وأنّ أعظم الكتب يمكن أن تتحوّل إلى مجرّد أوراق ميتة على ظهر حمار ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) حينما تفقد وظيفتها الإحيائيّة للعقل ( 15 )، وهذه الواقعة إن دلّت على شيء؛ فهو أنّ العقل حينما يتعطّل لا يستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به، ويمرّ على الآيات ( وهو عنها معرض ) لأن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئاً، وأنّ ما حدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق. فالقانون الإلهيّ يطوّق عباده جميعاً.
يرى مالك بن نبيّ أنّ معركة ( صفين ) لم تكن مجرّد معركة عسكريّة بسيطة حقّق فيها طرف انتصاراً على طرف، أو بالعكس، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلاميّة، و ( انقلاباً ) لسلّم القيم، ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل بن أبي طالب: (( إنّ صلاتي خلف عليّ أقوم لديني، وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أنّ ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أنّ الحياة كلّها لله ( قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين ) ( 6 ). فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصيّة الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا – SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتّى اليوم، وهذا الانشقاق المروّع في عالم صفّين أفرز ثلاثة عوالم: عاَلم عقلانيّ، وآخر انتهازيّ، وثالث دوغمائيّ، العقلانيّ يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج، والانتهازيّ يملك مقود التوجيه، والدوغمائيّ يدمّر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقليّ، وسوف يكتب مصير العالم الإسلاميّ بعدها أن يتشرّب العنف، فيعجز عن حلّ مشكلة نقل السلطة السلميّ، بعد فترة الحكم الراشديّ، الذي اتّفق العالم الإسلاميّ كلّه على منحه هذا اللقب، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشديّ، بل تحول التاريخ الإسلاميّ برمته إلى مسلسل لا ينتهي من قنص السلطة الدمويّ؛ ففقدَ العالم الإسلاميّ الرشد، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعيّ، وتحوّل إلى مذهب الغدر، وسوف نرى نتائج ذلك، في التحوّلات العقليّة الكبرى بعد ذلك عندما توقّفت الحضارة الإسلاميّة عن النبض والخفقان.
إذن فكارثة التحلّل في العالم الإسلاميّ لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة، في إشبيليّة أو بغداد، لم يدشّن بهجوم خارجيّ، بل بتحلّل داخليّ بالدرجة الأولى. بدأ المرض منذ معركة ( صفّين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلاميّ من يومها، وترك بصماته على العقليّة الإسلاميّة حتّى اليوم، وكانت هذه الجرعة السمّيّة في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنّجات لم تنته حتّى الآن، فمظاهر المرض الإسلاميّ كلّها بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة، والخلايا الحيّة، والأعضاء الاجتماعيّة الحيويّة، ففي رحم التاريخ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديّين الآن، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميّتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منّا، لأنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليّات ( اللاوعيّ ) الاجتماعيّة.
في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة، عندما قرّر أنّ الخمول والانقباض قد حلّ بالمشرق كما حلّ بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلّص من ظلالها، وفلّ من حدّها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدّل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة؛ فكأنّما تبدّل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، كأنّه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث ))
( 4 )
مع هذا نريد أن نضع مخطّطاً بيانيّاً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلاميّة عبر التاريخ، لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطّط؟
يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائريّ ( مالك بن نبيّ ) في المخطّط البيانيّ الذي رسمه للعام الإسلاميّ ( 5 ) ويعتبر أنّ نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته:
الأولى: ويعتبرها نقطة ( توقّف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفّين ) عام 34 هـ.
والثانية: هي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون، في نهاية القرن الرابع عشر الميلاديّ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجريّ.
في الأولى توقّفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل، فاستمرّ العالم الإسلاميّ في اندفاعه بزخم الوثبة الروحيّة الهائلة التي فجّرها محمّد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربيّة، وفي الثانية تحرّرت الغريزة من إسار الروح والعقل بالكليّة فتدمّر العالم الإسلاميّ، لأنّ هناك بالعادة تناقضاً بين الروح والغريزة، حتّى في حديث البايولوجيا، فسنّ اليأس عند المرأة – ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة – يترافق بظاهرتين مزدوجتين: نموّ عالم الروح، ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس، وإن كان بعضهم يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم، ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات.
إنّ المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لا يسقط طريح الفراش، لإنّه يكون عندها في مرحلة ( المعاوضة – COMPENSATION ) وليس في المرحلة ( السريريّة – CLINICA ) أي لا يحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلاميّ وبالتدريج، الذي أصيب ( التجرثم الدمويّ – SEPTICEMIA ) مع معركة صفّين، ليبدأ بالنوافض ( SEIZURES ) المجنونة مع الخوارج، والنزف ( BLEEDING ) العبّاسيّ، والحرارة ( FEVER ) الأندلسيّة، والغيبوبة ( COMA ) المملوكيّة، والدخول في الصدمة SHOCK) ) والانهيار البونابرتيّ، وأخيراً ( السرير ) الاستعماريّ مع نهاية القرن التاسع عشر، ثمّ ( التشريح ) في قاعة العمليّات، حيث جرت عمليّات البوسنة ( استئصال الأعضاء ) أو زرع الأعضاء ( زراعة إسرائيل )، ولا أدري هل انتهت العمليّات ونقلنا إلى العناية المشدّدة - اللهمّ إذا أُكرمنا بعناية مشدّدة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام - أم إلى ثلاجات الموتى، لا نستطيع أن نقول شيئاً، لأنّنا لا نعرف ماذا يجرى لنا، ولا نعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتّحدة، وقوى الاستكبار العالميّة، ولا نملك العقل الخلدونيّ التحليليّ.
إذا كان هذا التحليل الخطير صادقاً، فإنّ العالم الإسلاميّ انحدر في الواقع إلى مادون السلبيّ في المخطّط البيانيّ، أي تحت خطّ الصفر، كما نرى ذلك في مخطّط القلب الكهربيّ، حيث ينحدر الخطّ إلى ما تحت الخطّ الأفقيّ، الذي هو خطّ الصفر.
إنّ المؤرّخ الأمريكيّ باول كينيديّ في كتابيه ( صعود وسقوط القوى العظمى ) و ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) يؤرّخ لـ ( المعجزة الأوربيّة ) التي أمسكت بمقود التاريخ بالتدريج في مدى القرون الفارطة، كما أنّه يرى أن ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين، بحسب الخانات التي يوزّعها، ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلاميّ يغطّ في أحلام ورديّة على رقصات ( الدراويش )، وازدراد الأساطير، وقصص ألف ليلة وليلة، وأخبار الجنّ والعفاريت، فإذا قيل للسلطان العثمانيّ إنّ شيئاً جديداً يدبّ في الغرب فهل لك في زيارته والتعرّف على ما يحدث. كان يجيب: سلطان المسلمين لا يدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك، أنّه سيحول أولاده بعد فترة من ( فاتحي ) أوربا إلى ( متسولي ) أوربا، وراجعوا قصّة ( عليّ التركيّ – ALI ) تعطيكم الخبر اليقين ( 8 ) وهذه هي سنّة التاريخ الصارمة.
كانت معركة الزلاقة ذات حدّين، فهي فلّت حدّ الإسبان، ولكنّها أعلنت بالوقت نفسه أنّ الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم من حيث هي كيان مستقلّ، وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها، لذا لا غرابة إن كان الملوك الموحدون ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمّونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟!. هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة، لا بدّ من معرفة ما قبلها وما بعدها، حتّى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلاميّ، فبين معركة الزلّاقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي أوقفت الزحف الإسبانيّ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائيّ ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أنّ معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهوديّة منبوذاً محطّم القلب، فعوقب المجتمع الأندلسيّ برمّته، فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلاميّ بعد معركة العقاب بـ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة – ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك، عام 1141 م، ثمّ تتالى مسلسل السقوط، فسقطت ( بالنثيا – BALENCIA ) عام 1238 م وتوّج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عبّاد عام 1248 م ( اشبيليّة – SEVIA ) وهكذا سقط جناح العالم الإسلاميّ الغربيّ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبيّة حول ( غرناطة – GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كفّ القدر، بحسب الوضع الإسبانيّ وكيف يتطوّر، ذلك أنّ المجتمع الأندلسيّ كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير.
وإذا كان جناح العالم الإسلاميّ الغربيّ قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلاديّ ( 3 ) فإنّ كارثة أشدّ ترويعاً حلّت بالعالم الإسلاميّ في جناحه الشرقيّ، وبفارق أقلّ من عقد واحد من السنين، فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط إشبيليّة، التهمت المحرقة المغوليّة الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلاميّة عام ( 1256 ) م، فاغتصبت لؤلؤة الشرق، ودمّرت المدينة، وذبح مليونان من السكّان، وأحرقت المكتبات، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلاميّ في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة، وبذلك سجّل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلاميّ.
- بقلم/ خالص جلبي
إرسال تعليق