- أنت ابن بيئتك؛ تحرر!
وإنك يا هذا ابن بيئتك، فهي تتشكل فيك، وأنت تتقولب داخلها، وبها تُعرف، وأثرها عليك بالغ، وتأثرك بها كبير، فما أنت بفكرك إلا صنيعة تلك المدخلات، التي رافقتك منذُ الخلق الأول، وإنها على حالها هذا باسطة ذراعيها عليك ما قدرت، فتراها قد طوعت مُعتقدك ليتناسب معها، وليمضي على أثرها.
- إن خطورة تَطبع “الهوية البيئية “يكمن في طريقة تشكلها، لا في ذاتها، فهي لا تظهر فجأة، فيدرك أمرها، ويتحاذر منها، وإنما بالتدرج والتراكم شيئًا فشيئًا، لتساهم العوامل الخارجية -وأهمها السياسية- في صناعتها، لتتكون بعد ذلك هويتك الثقافية.
- وإن العلوم الإنسانية؛ بما فيها العقائد الدينية تَشوبها الكثير من التفسيرات، التي تقود إلى تصرفات وسلوكيات لا صلة لها بالعقيدة، وإنما صقلها العامل البيئي، والتراكم الثقافي! ونضرب لذلك مثلًا، (المسلم) يستطيع أن يتحول إلى متطرف -إذا أراد- وسيجد في دينه ومعتقده من الدلائل والمقولات ما يدعم توجهه هذا، وبسهولة ويسر، فهو يشرع في بحثه عن الأدلة، ليس من منطلق الباحث عن الحقيقة، وإنما من تَطبع سابق، وشهوة دافعة، لتأكيد قوله ورأيه، وعلى ذلك فإنه واجدٌ لمطلبه أدلة يستطيع تحويلها وتمييعها لتوافق فكرته ومذهبه، ولو اضطره الأمر إلى التحريف!
- ومثله كذلك “العلماني العربي“ فإنه قادرٌ على تطويع الأدلة والمعتقدات لتغدو متناسبة مع هواه، كأن يكون مسالمًا أبدًا، أو محاربًا أبدًا، فالأفعال التي سيتجه إليها (الباحثون) هُنا قائمة على تفسيراتهم الشخصية، لا تفسيرات الحقيقة العقدية، فهي لا تعني بالضرورة الصورة الذاتية للدين، ولا المراد الفعلي للدليل، وإنما تعني قدرتهم العالية على تطويع الأدلة وتحريفها؛ وفقًا لهواهم.
- إلا أن الأمر يختلف عندما يكون هناك نزعٌ بيئي وهوىً شخصي غير ما يدعو إليه المعتقد، فالعلمانية حينها بهدوئها المزعوم ستكون عاجزة عن صد ذلك الهوى، فمثلًا لا يقدر أحد يضمن أن تطبيق العلمانية -تَرك الدين- على واقع المجتمع العربي اليوم -وقد طُبقت- سيوقف الاحتراب، وسيَحد من الأزمات، فلطالما كانت الحروب الظالمة التي يقودها النظام الغربي، ومثله طغيان الأنظمة العربية مع شعوبها؛ برعاية العلمانية.
- ومن هذا نستفيد أن تطبيق العقائد والنظريات؛ كما منصوص عليها يحتاج إلى تجردٍ كبيرٍ، واستقلاليةٍ صادقة؛ من أي هوى آخر، ثم بعدها نذهب للنبع الصافي، قبل تدخل عامل “الثقافة الغالبة“، عند ذلك فقط سنرى المسلم قويًا ذلك أن دينه يدعوه للاستعلاء عمومًا! وسنرى “العلماني“ ضعيفًا لأن فكرته عن الدين تدعوه للمهادنة والسلام عمومًا، وهذا من أبرز الاختلافات بين الفريقين.
- إذن “البيئة المحيطة “أو “الثقافة الغالبة“ تساهم بفاعلية في صناعة الآراء والأفكار، وتطويع المعتقدات حتى تلك التي توصف بالثابتة لما يتناسب مع الحال والواقع، لذلك من الضرورة عند أي بحث أو تقصٍ أن يَحرص صاحبه على التخلي عن الهوى الشخصي، ومقاومة الثقافة الغالبة، والتجرد قدر الإمكان، ليخرج إلى رأي صحيح صائب، وهذا يتطلب جهد كبير، وتنبهٍ حاذق يعينه على تجريد ما خلفته “البيئة المحيطة“ في المعتقد من إضافات؛ باتت مع الزمن من خصائصه، وتراكمات ثفاقية، غدت سمة وهوية قومية!
- فإن العودة للأصل الأول لأي فكرة؛ أمرٌ مطلوب، ثم المقارنة بين ما هو مستحدث بدعي فرضته سياسة وثفافة الغالب، ومستحدثٍ آخر فرضته حاجة الواقع والزمان والمكان، دون تدخل خارجي غالب، مع الأصل الذي جاءت به الشريعة، فيأخذ الأحسن ويدع ما دونه، وختامًا احرص على أن تكون مدخلاتك صحيحة سليمة، لتكون مخرجاتك كذلك، وتضمن سلامة قولك ومذهبك.
#ص_ع
إرسال تعليق