رأيٌ مُقدس!
إن التضييق على الناس في التعبير، وفرض الرأي الواحد، وإلزامهم ما لا يَلزم، تَطرف مُعيب ليس من الحكمة في شيء، ومن منا الذي يبقى على حاله، فأنت بالأمس برأي، والساعة برأي، وأنت اليوم، غير أنت الأمس، فكيف تلزم الناس بما لم تطقه أنت؟! وماذا لو فتحنا الباب للرأي الآخر وتعرفنا عليه فلربما كان هو الخير الذي فاتنا!
- فإن كنت تظن أنك قد استقريت، وبدا لمعاليك أنك في آخر المرحلة، فإن زعمك هذا لا يمنحك حق الإلزام، فتفرض على الآخرين ما كنت تراه غير مُلزم، ألا تدعهم يجربوا كما جربت، ويبحثوا كما بحثت، ليَصلوا كما وصلت، وما يدريك لعلك الٱن في المكان الخطأ! وإن هم عَبروا وبحثوا وجربوا فقد يَصلون لما وصلت، أو لربما وصلوا لخيرٍ مما وصلت!
وإننا نتفهم همك عليهم وحرصك على إفادتهم، لكن ذلك لا يكون بالإجبار والترهيب، بل الحكمة واللين والقول الحسن، فإن يجربوا ويبحثوا ونحن معهم، خيرٌ من ولوجوهم دوننا،منفردين بأنفسهم، فإن فعلنا ذلك “أي تركناهم وأقصيناهم مكلفين لهم مالم يستوعبوه بعد“ نكون قد دفعناهم للشر الذي ندعوهم وإياك إلى مجانبته وانتشال الناس منه، فالتوسط التوسط، والاعتدال الاعتدال ومراعاة الناس وحالها، والتيسير عليهم ومنحهم حق التفكير والنقد وحرية البحث والسؤال، ولا خوف في ذلك فإن لكل سؤالٌ جواب، ولكل جوابٍ صواب، وهذا ما يجب علينا فعله تجاه كل باحثٍ وسائل.
- فما نفعله من تضيقٍ وتقيدٍ على الناس، نجانب به الصواب صدقًا، فكما تنقلنا بين الطوائف والأحزاب، وتقلبنا معهم يمنة ويسرة، فإنه خليقٌ بنا فتح باب التجريب للآخرين، ليغيروا! لعل ذلك يقودنا أو يقودهم للصواب من القول والعمل، فإننا على الحقيقة عاجزين على الرد عن الطرف الآخر مالم نسمع قوله عيانًا، ونقرأ فكره بيانًا، ونتفهم منه مراده قصدًا، فيكون ردنا عليه حينئذ مناسبًا لحالته، مطابقًا لوضعه، متفهمًا للدوافع والأسباب التي كونت رأيه ذاك، فيكون فيه الإجابة الشافية على أسئلته، والرد الكافي عن استفساراته، وعندئذ يكون قول أحدنا ملزمٌ للآخر! يقول مصطفى السباعي -رحمه الله-: "لا سبيل إلى إنصاف مخالفك في الرأي إلا أن تستمع إليه، وترى ما عنده."
- وهذا الأمر ليس لكل الناس، ولا في كل وقت، ولا مع كل قضية، وإنما في القضايا المشتبه فيها، وفي أوقات الاستقرار الفكري، ولمن أراد أن يفهم على صدق، ولمن فتح أذنه للٱخر ليسمع منه، وأما من اغتر برأيه وجعل منه مقدسًا؛ ودافعه الهوى “ما أريكم إلا ما أرى“ فإن سماع رأيه وإن كان مهماً لكنه ليس بأهمية ذلك النوع الذي بذل نفسه لفهم الحقيقة، وعنده الاستعداد لسماع الآخر، ولو خالف هواه ورأيه! ذلك أن الأخير قد قتله غروره، وقيده كِبره، ليمنعاه من سماع الحق، والتحاور والمناظرة، للوصول إلى الأجابة الصائبة، إذ يرى في قوله، الكفاية عن أي قول، فهذا يجب معه الإلزام من أول الأمر، ولا داع للخوض معه في التفاصيل، لأن في ذلك هدرٌ للوقت، وضياعٌ للجهد، واستنزافٌ للعقل. والله أعلم!
#ص_ع
#صناعة_الوعي
إرسال تعليق