خُطُوَاتُ الشيطانِ بينَ المَرأةِ والإِعْلامِ.
بدأنا، فَدَخَلَتْ بعدَ إلقاءِ السلام، لم تكُن قد تأخَرَت كثيرًا، وأدركتُ أنها كانت في القاعة المُجاورة لقاعتنا، نظرتُ لها بحيادية تامة ولعلي ألقيتُ عليها نظرةَ أمٍ رؤوف، وإيماءةَ حنانٍ وتَرَفُق، في حالِ نظراتِ الاستهجان من أقرانها الفتيات، والتعجب والترفع من الرجال والأمهات.
أكثر ما لفتني وقتها ويستحق الوقوف هو نظرة الاستهجان، كانت النظرة من فتيات حديثات العهد ينظرنَ إلى واحدة من أترابهن وقد خالفتِ المألوفَ في العُرف والمعروفِ في الشرع، حسنًا لنفسر أن نظرة الاستهجان تلك كانت إنكارًا لمُنكر، ولكن قليلا وما لبثن المستهجنات أن التففنَ حولها متلونات كتلون السحليات؛ فضحكتُ في داخلي، وقلتُ ما سأُعلمهم داخل البرنامج التدريبي سأبث فيه ما يُقَوّمُ هذه السلوكيات، فعلى كلٍ لا يزلنَّ حديثات السن...
إذًا لم تكن تلك النظراتُ نظراتِ إنكارٍ حقيقي، كانت نظراتٍ منافقة للمجتمع والعُرف، ولم تحسب للدين حساب لأنها لم تكن على اقتناعٍ بأوامرهِ، ولعل نظرة التعجب كانت أبلغ وأعقل، تعجب كيف يكون الإنسان بدون هدى الله، تعجب كيف يُعمى الإنسانُ بين المُبصرين، تعجُبّ كيف تتقلب الأحوال على الناس ولا أحد يأمن نفسه وإيمانه، تعجب يعقبه رجاء الهداية لنا ولهم، يليهُ خوفُ الانتكاس.
وإِِني كُلّما تذكرتُ تلكَ النظرات شعرت بالسعادة أن الغيرة على الدين والمرأة كانت بذلك القدر، فعندما أرى البونَ في ردودِ الأفعالِ بين ذلك اليوم والآن، أتحسر!
في ذلك اليوم منذ عامين دخَلَتِ الفتاةُ متحجبة وكان حجابُ رأسها كاملًا مُنضبطًا لم أرَ منه شَعْرةً واحدةً، ولكن كانت طريقةُ لَفّهِ كطريقة "الموضة" الممتلئة بأسنمة البُخت طلوعًا ونُزُولًا، مما أعطاها انطباعًا ليس جيدًا لدى الأخريات، والانطباعات الأولى تدوم... مما جعل الفتيات يُعرضنَ عنها إعراضًا كاملًا، عدا حديثات السن المنبهرات بصمت وبتذبذب، وبعضُ حديثات السن المشدد عليهن في البيوت دون توعية وإيمان حقيقي بما يفعلن، كُنَّ يتقافزنَ عليها مقافزةً إن حَدَّثَتهُن، ويرمقنها بألوانِ رمقاتِ الاستهزاء، وكان يفترض أن يكُنَّ العاقلات اللواتي هذبتهن التجارب لها أقرب؛ عَلّهُن يرأبن الصدع في حالها...المهم كانت سمراء البشرة لا تضع المساحيق المُبيّضة ولكنها تضع الرسمة حول العين والتي نسميها في عالم المكياج"آيلاينر" ولا ننسى كذلك"الماسكرا" لتطويل الرموشِ ومن هذهِ الحركات والمُفارقة أنهُ في هذهِ الأيام أصبحتُ أرى الفتيات يخرجن بكاملِ المكياجِ وفنونهِ، والأمَرّ هو أن الناظرةُ من الفتيات-إلا من رحم ربي- أصبحت ترى ما ترى وتعده من الروتين والعادة، وهذا هو أثر التكرار في انحلال العقائد، بل وأصبحت بعضُ الأحاديث تُهدر كيف أن هذه أتقنت التبرج أكثر من تلك وهلم جرا عافانا الله.
عندما نظرتُ لها وقتها تملكني العطف والشفقة والرغبة الجامحة في تغييرها، نحنُ الذينَ كبُرنا بالخبراتِ، ما عادت رداتُ فعلنا كردة فعل العوام، ندرك أن خلف كل شخص شيٌء يدفعه لفعله الذي يفعله، خلف كل شخص مبرراته المقنعة بالنسبة له، وخلفه مبادئ يستميت مقاتلا لسموها، وخلفه كذلك بيئة هي من شكّلتهُ وكان لها النصيب الأكبر من توجيهه لإحدى السبيلين، والهدايةُ هدايةُ اللهِ أولًا وأخيرًا: ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
الأعراف (178)
وكما يقولونَ سَيماء ُالمرءِ في وجههِ، وكأنَّ الوجهَ قالبُ الروحِ وبهِ تتقولب كيفما كان. كان وجهُهَا لطيفًا بريئًا، يملكُ ابتسامةً طليقةً دائِمةً تَبيّنَ لاحقًا أن هذهِ الابتسامة العريضة وراثةٌ كعلامة الجودة، إذ أن ابنها يبتسم ابتسامةً عريضةً دائمةً مثلها، وكذلك أُمُها عندما زارتنا...
كانت ملامحُ البراءةِ فيها والعفوية تبثُ الراحةَ في نفسي بأنَّ ثمرة الخير فيها لا تُعدم.
كانت وقتها بعمرِ العشرينِ وأُمًا لطفلٍ بعمرِ العامينِ، تزوجت صغيرةَ السنِّ وزوجُها في الغُربةِ يأتي بين الفَينة والأخرى، ولكنه من أول الداعمين لها فيما تفعلهُ وفيما تُريدُ فعلهُ، لم تدخل الجامعة بعد فقد تفرغت لطفلها، ومع ذلك والدتها تساعدها في التربية فتقضي أوقات في دراسة اللغة الإنجليزية وتطوير موهبتها تلك الموهبة التي ستجني عليها لاحقًا...
كانت راقيةَ الأخلاق ومتعاونة مع الجميع، ومتواضعة، ومرت الأيام وانقضت مدة البرنامج"الأسبوعان" وتعرفنا على وافدتنا الغريبة أكثر، وتعرفنا على موهبتها...
تلك الموهبة كانت الغِناء!
عندما ذَكرَت ذلكَ تذكرتُ أنني قد رأيتها مُسبقًا تُغنِّي في احتفالات دور الأيتام والبرامج الخيرية التي دُعيتُ لها سابقًا، وكان هذا الخبر بالنسبة لي كالخيبة والصدمة، وكنت في نفسي أقول أيُّ زوجٍ هو زوجها؟! حتى يرى زوجتهُ كلَ يومٍ ترقى هذا المنحدر الذي سيهوي بها دون أن يحرك ساكنًا، حتى أنني في نفسي قلت يبدو أنه ليس بيمنيّ! فرجالُ اليمنِ تميزهم الغيرةُ المحمودةُ، ومُخطئ أو مخطئة من يظن أن ذهاب الغيرةِ كمال حرية الحُب، فقد كان ابن القيم-رحمه الله-أعلم منا بهذا حيث قال: "إذا ترحلتِ الغَيْرةُ من القلبِ تَرَحلت منهُ المحبة، بل تَرَحلَ منهُ الدِّينُ كُلهُ"، وكذلكَ أرى أن الواحدَ مِنَّا يغارُ على نفسهِ، وغيرتهُ أن لا يجد نفسهُ ذاهلة فيما يحط قدرها، ويعلي إثمها.
كانت الفتاةُ قد أحبّتني واعتبرتني كالأم الروحية لها في أمور الدين والحياة، ناقشنا لاحقًا بعد انقضاء البرنامج، أمورًا كثيرة من مشاكل وطموحات ودين!
كانت يسيرة التقبل، ولكن تُطأطِئ الرأس عندما نتحدث عن الدين وما يجب وما لا يجب، وكأنها بطأطأتها تُقِرُ بخزيها، وفي ذات الوقت تقول لي ما باليد حيلة!
لقد كانت تلك بيئتها! لقد كانت البيئة هي الأساس في الانحراف، كانت تقول لي لكن يا معلمة أنا لا أضع المكياج ولا أُخرِجُ خُصلَ الشعرِ، ولا أرفعُ أكمام العباءةِ...فما الضرر طالما أنا ملتزمة بأوامر الله! والحقُّ أنها كانت قد تغيرت فلم تعد تضع نقطة من المكياج وأسنمة البخت تلك قد جُزَّت...وعباءتها ساترة غير مزخرفة، ولكن لطالما قلت السيئة تجر أختها، فإذا ما كانت اليوم تُنشدُ للأطفال في دور الأيتام ترانيم البراءة، فغدًا اللهُ أعلم لمن الغناءُ يكونُ وفي أي دار؟!
قالت أنها لن تتغير وتصل للمرحلة التي أحذرها منها، لكنني قد طرحت لها ما سيحدث ستتسابق القنوات على جعلها وجهًا إعلاميًا، ستتسابق على جعلها تغني ما يريدون...فالفتاةُ ولا سيما من تملكُ مقوماتها من موهبة وإباحة من قِبَلِ الأهل في ظل أن المجتمع محافظ سيجدونها ككنز أو بالأصح طُعمٌ جيّد لا بُد أن يُستغل، وستجد نفسها رغما عنها في المكان الذي لم تتوقع يوما الوصول إليه، كنتُ قد قلت لها أن المرأة المتبرجة مطمع لكل آمال النسوية والذكورية وسيقودونها لما لا تحمد عقباه في الدنيا والآخرة، كانت حزينة لأني قلت متبرجة وهي ترى نفسها محافظة وقد تغيرت كثيرا إلا أنها تحب الغناء، وترى طالما زوجها وأمها راضيان بل ومشجعان فإنها في الطريق الصحيح، ولكن أين رضا الله؟!
المهم مرت الأيام ونحن على شبهِ تواصل، أقاربُ ما شاء الله لي من أمورها وأسددها، وهي بين الحين والآخر تشاركني إنجازات دراساتها، كانت قد درست دبلومًا في المتلميديا، فهبط قلبي خوفًا ماذا سيحدث بعد هذا الدبلوم، وإذا بها تدير إحدى البرامج في إحدى إذاعات الراديو، وليته أي برنامج أو فقرة بل كله عن الغِناءِ وفنهِ، وكل يوم أُدرك أن الأمر لن يقف مكانه والله وحده يعلم أين المستقر، قبل العمل مع هذه الإذاعة كانت حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي لا تحمل صورة من صورها، ثم انقلب الحال، قليلًا واستدعتها إحدى المصممات اليمنيات للأزياء وألبستها من أزيائها التراثية المعاصرة فظهرت كما تظن كمودل "عارضة أزياء"عصرية، واتضح أن الصور أُخذت لأغنية يمنية قيد التلحين، قليلًا وقدمت لها إحدى"الميكآب آرتست المشهورات" جلسة مكياج مجانية وإذا بها تُنزِلُ الصور سعيدةً بسذاجة، وما درت أن الأرتست هذه لم تعطها الجلسة إلا وهي تعلم أنها تصور كل شيء وتنشر كل شيء حتى نفسها باسم الجمال والإبداع، وفي إحدى الأيام ينزل لها "فيديو كليب" لأغنيةٍ عن الحُبِ وأيامهِ بينما هي الممثلة، وكان ذلك اليوم يوم الهوة بيني وبينها وكان ذلك بعد عام كامل، طبعًا مثل هذه الأخبار هي لم تكن تخبرني بها، كانت تخجل وكانت تداريها عني، ولكني كذلك كنت أعلم، وفي ذلك اليوم لم أصمت وهي كالعادة مطيعة ولكن هوى النفس أغلب، وقلتُ لها كذا وكذا تعلمين أنه خاطئ وأن كذا وكذا هو الصواب، ولكن كما ترين تُغلبين الهوى وتنساقين للعروض وإغراءات الشهرة، كما أنكرتِ من قبل أنكِ ستفعلين هذا!...فحذَفَتْ كل الصور من على الفيسبوك،
ومرت الأيام وكانت قد همدت ثورتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنها على أرض الواقع كلا، وإذا بها تقول لي فجأة ظانةً أنها تنقل لي خبرًا سعيدًا:
- لقد وقَعتُ عقد عملٍ في إحدى القنوات للتمثيل في مسلسلٍ رمضاني!
من يقفُ موقفي وقتها ماذا عساهُ يقول؟!
طوال هذهِ المدة وأنا على مرأى كيف تدرج بها الأمر، كيف قادتها الخطوات الصغيرة لما هو أكبر رويدا رويدا، كيف استصغرت الخطوات الصغيرة تلك واستهانت بها حتى وصلت إلى ما لم تتوقعه يومًا!
بعد تجربتها التمثيلية لم أجد على رأسها ما يسمى بالحجاب؟!
فقط توجد قطعة ما تغطي الرأس كالقبعة، لا أظنه بحجاب، فالأذنُ ظاهرة بل ومزينة بالأقراط، والنحرُ ظاهرٌ، والمرفقُ ظاهرٌ ولا أدري ماذا بقي ليظهر؟!
إلا أنها ظلت في أعمالها الخيرية نشيطةً لصالحِ الفقراء والأيتام....
في ذلك الأسبوع الذي وردني هذا الخبر، ظللتُ واجمةً حزينةً أشعرُ أنه كان يجب عليّ فعلُ شيٍء ما، ثم أتفكر وأجد أنني قد استنفدت كل شيٍء بالفعل، وأتذكر المواساة الربانية: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ...)
البقرة (272)
(وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
يس (17)
تفكرتُ كثيرًا يومها كيف بدأ الأمر يسيرًا صغيرًا يستهونه الواحد مِنّا، فيما عدا المُبصر العارف بخطراتِ اللعينِ ونوافذِ بسطهِ من النفوس، خُطوةً خطوة من بابِ الموهبةِ والإبداع، من باب الحُريةِ وأنَّ اللهَ يُحِبُّ الجَمَال، من بابِ أنَّكِ إن كنتِ مُحافظة فأنتِ متطرفة، وتعيشين في جلبابِ الدينِ القديم، ومن باب حتى لو كُنتِ مُحافظة فهذا العمل لن يُخِلَّ بمبادئك، ولكن المسكينةَ ما دَرَت أنَّ هذا العمل وما شَاكَلهُ لا يتطلب سوى الانحلال رويدًا رويدًا عن المبادئ حتى ينتهي بانحلالِ مظاهر الدين.
القصه قمه في الروعه الله يجنبنا واياكم وسوسة الشيطان
ردحذف