تداخل الهويات يلغي الهوية الثابتة!
-
من يتدبر واقع التأريخ والحياة البشرية عمومًا، يجد انتفاء وجود هوية مستقلة بذاتها، ثابتة لا تتغير، فالمتدبر الرصين يدرك أن جميع الهويات مختلطة ومتداخلة، إلا من هويةٍ مكانية جاءت نتيجة مُناخ البيئة المحيطة، أو زمانيةٍ تولدت مع الحوادث الاجتماعية، والمتغيرات السياسية، فأهل الوادي ليسوا كأهلِ الجبل، وأهل الحضر كذلك ليسوا كأهل البدو، وهكذا، على أن ذلك لا يمنع من تداخل الهويات فيما بينها؛ فينقل ابن الجبل، عادات أهل الوادي، وينقل ابن الوادي تقاليد أهل الجبل، ما يفترض أنه يتناسب مع بيئتهم الظرفية، ثم بمرور الزمن تتطور هوياتهم فيكون فيها البقاء للأصلح والأنفع -افتراضًا- لكن ما نجده في بعض المجتمعات الثقافية، مخالفٌ لما افترضناه إذ يكون البقاء للأكثر شعبية، وللعادات والطبائع الغالبة المستندة على قوة وظهور صاحبها!
- ثم هُناك _وقد صارت ديدن الدول والحكومات_ من تكون غايته من الهويات؛ العودة إلى الوراء فحسب؛ بقصد استجلاب كل ما هو قديم من ملبسٍ وخزف، وأدوات تراثية، بما يسمونها موروثات شعبية، في ظنٍ منه أن ذلك يُعد حفاظًا على الهوية! وعودة للأصل، وهو بذلك يعود لعادةٍ لا يعلم أصلها على وجه الدقة، فلربما كانت عادة مستوردة بالنسبة للأجداد حينها، ولعل أحدهم قد رفضها آنذاك! أو عادة تّخّلفت مع تطور الإنسان ولم تعد من ضرورياته ولا حاجاته، فهو في غنىً عنها ولا يصح اعتمادها ضمن دائرة ما يجب الحفاظ عليه!
- وعلى هذا الحال فدعوته للحفاظ على عادات من ذلك النوع، هي دعوة للجمود، ورجوع للخلف على غير وجهٍ صحيح، ولا سببٍ مُقنع، لذلك كانت الهوية المطلوب المحافظة عليها، هي العادات الصالحة التي أثبتت نفعها وفائدتها، ثم لا ضير في استجلاب عادات وتقاليد جديدة في حال ضُمن نفعها وصلاحها، ومواءمتها للبيئة الجغرافية والعادات القيمية الثابتة، والمقصود بالقيم الثابتة (الدين واللغة، والثقافة التي تولدت منهما)!
فمثلًا، الإسلام باعتباره أصح الأديان وأتمها، فإنه قد اكتمل من قرابة 1400 سنة، ولا نحتاج فيه لا للتطويرٍ ولا للتغيير، ولغتنا مع كونها مرنة ولينة إلا أن قواعدها مكتملة، وعلومها مستوفية، وهي تتطور بناءً على تلك العلوم ولا يُخترع لها علمًا جديدًا، وهذه الثوابت خلقت لدينا ثقافة مكتملة الأركان، معبرة عن نفسها في كل محفل، تأخذ وتعطي، وتتناسب مع البيئات الأخرى شرقًا وغربًا دون المساس بالركائز التي تقوم عليها هويتنا الإسلامية، وأما غيرها فقابلٌ للتطوير والتغيير والحذف والإبدال!
- صفوة القول: الهويات جزء من البيئات ينالها ما ينال البيئات من متغيرات ظرفية وسياسية واجتماعية، على أننا في ثقافتنا الإسلامية لا نتقيد بتراثٍ محدد، ولا هوية ثابتة، ولا نُلزم أحدًا بذلك، فكل الأمور عندنا مقبولة ومجازة ما دامت في إطار المسموح به غير المخالف لقيم وثوابت الدين، فإن مبدأنا مع المتغيرات -سواءً تلك الأمور القديمة أو الحديثة، أو التي لم تأتِ بعد- موقوفٌ على رأي الشرع، فإن وافقته فهي أهلٌ للبقاء، وإن خالفته فزوالها وإزالتها واجبٌ وفرضٌ على كل مسلم.
- #ص_ع
إرسال تعليق