U3F1ZWV6ZTE4OTE5ODMyNDAxMDQ5X0ZyZWUxMTkzNjI2NjI5MjY0OQ==

سؤال الغاية والعلة ومعنى العبودية | محمد أبو نجا





بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وآله وأصحابه الغر المحجّلين وَمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

كما أنه يجب أن تُستَقى الأمور مِن مظانّها، والعلومُ ِمِن أهلها العارفون بها، والقواعد من جوامعِها، والفروع مِن أصولها، فإنك لا تسأل النجار عن علّة المرض وإنما الطبيب المداوي، ولا تسأل عن فنون الزراعة طبيباً وإنما أهل الزراعة الممارسون لها، وهؤلاء كلهم في أمور الدنيا الفانية، فما بالك في شؤون الحياة الباقية، فإنه من باب أولى ألّا تسأل عن سؤال العّلة والغاية إلا أهل الذكر فإنهم ألصقُ بمصادر التلقي وأوثقُ في أصول الاستدلال.


لماذا خلقنا الله؟ هذا هو سؤال العلّة الذي يجبنا عنه القرآن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات-56]، وأما لماذا نعبد الله وهو سؤال الغاية فيجيبنا عنه القرآن بقوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام – 12]، أما كيف نعبد الله ونحقق معاني العبودية الحقة؟ فهذا هو سؤال الكيفية وما معنى أن تكون عبدًا حقَّا لله يمتدحُك ربُّك بذلك كما في قوله تعالى {نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص – 30]، فهذا ما فيه التفصيلُ وإنْ كنّا نخالُ أنفسنا منه على يقين. 

العبودية الحقة لله أن نجاهد أنفسنا لتكون السرائر كما العلائن، وأن نُجَمِّل الجواهر كما نجمّل المظاهر، وأنْ تَخلُص النية فتسلمَ بلا شِيَة.  أو قل هي كمال العبادة مع كمال المحبة والخضوع.

واعلم أن أخصّ أعمال العبودية هي تحقيق هذا الخضوع والذل عن محبة، فقد يخضع العبد لجبروت أو سلطان معبوده وسيده، أما العبد المتحقق في عبوديته لله حق التحقق فان خضوعه وذله وانكساره بين يدي ربه هي عن حب خالص يقدّم فيه حب الله على أي حب سواه فترى القلب فارغًا من التعلق بأي محبوب إلاّ التعلّق بالله، وأنه على قدر اقتراب أو بعد العبد من هذه المحبة والخضوع؛ تكون درجته في العبودية أجلّ وأرفع أو أقلّ وأوْضَع.

ومن لوازم هذه العبودية الحقّة كمال التسليم سواءً بدت العلّة أو خفيت، تجلت حكمتها أو سرَّت، وهل كان إيمان أبي بكر الصديق في كفّة وإيمان الأمّة في كفة أخرى؛ إلاّ عن كمال تسليمه وتصديقه، بالرغم أنه كان من بين الصحابة من هو أكثر منه عبادة في بعض الجوانب؛ لكن ما وَقَر في قلبه وصدّقتْهُ جوارحه كان أعظم مِن أن يكون لأي أحد سواه.

والإنسان بما خلقه الله عليه مُهيأٌ تَهيأة ًكاملةً لهذه العبودية؛ فمن حيثُ الخِلقة: فإنّه خُلق من تراب ولم يكن من معدن نفيس كالذهب مثلًا وذلك ليستشعر و يستحضر هذه الدونيّةَ فلا يطغى أنْ يكون عبداً  لربه، ومن حيثُ أصل الخلقة: فإنه مخلوقٌ من ماء مهينٍ ليدرك أصل المهانة فيه كابراً عن كابر، ومن حيث حجمه: فما حجمه إلى الجبال أو النجوم أو السماوات وفيه مِنَ الضعف ما فيه، ومن حيث علمه: فلا يعلم الغيب ولا ما يكون من أمره سواءً فيه العاجلُ و الآجل، ومن حيث مُلْكِه: فلا يملك هذا الإنسان المهين الضعيف الجاهل أي شيء وكل ما بين يديه عارية مستردة لمالك الملك حتى روحه التي بين جنبيه ليس له من كُنهها مثقالُ ذرة. فينبني على ما ذكرنا إيجازًا، وما أغفلنا تثويرًا للبحث والتنقيب؛ ينبني عليه أنْ حاجتك لهذه العبودية أشدُّ من حاجتك للهواء والغذاء، وضرورتها ضرورة حتميّة، وأنّك مؤهل تأهيلاً جِبليَّاً لها رحمةً بك وإشفاقًا عليك من خالقك.


أما درجات هذه العبودية و عتباتها فخضوع وتذلل ثُمَّ رِقٌ في القلب ثم حرص و طمع حتى تصير له صِبغةً، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً ۖ}[البقرة – 138] قال مجاهد أي فطرة. حتى العبادات قد هيأها الله لتُورِد العبدَ مواردَ الخضوع والعبودية لله؛ انظر إلى اشتراط الطهور للصلاة لتجتمع طهارة الجوهر والمظهر، ثم خشوعك وركوعك وسجودك وهو أشرف مقامات الذل والخضوع والانكسار بين يدي خالقك، واستغفارُك بعد الصلاة رجاءَ القبول فلا يغترّ قلبك الضعيف بما قدّمت. وليستحضر الإنسان ما قلناه هنا في بقيّة عباداته من زكاةٍ وحج وصوم وكيف تتهيأُ فيها معاني العبودية كلّما تدبرها الإنسان بعين قلبه.

كما أنّ فَهْمَ حقيقةَ هذه العبودية يساعد في فهم فقه مقاصد الأحكام الشرعية، ولنأخذ مثلًا لذلك نوضّح به هذه النقطة فنقول؛ اختلف العلماء في أفضلية القيام أو السجود؛ فمن رجَّح السجود فالعلّة لديه أنّ السجود هو سِرُّ العبودية لأن العبد أذلُّ ما يكون وهو ساجد، فجعلوا فقه العبودية من الأدلة في الترجيح بين الأقوال المختلفة، وقِسْ عليه حكمة حلق الرأس في الحج والعمرة، وتحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة.

أما هذا القلب الذي هو وعاء العبودية وإناؤها فإنّ له خصائص لابد من مراعاتها ليَحسُن بنا القيام بواجبات العبودية على صورتها الأكمل والأمثل وتهيأَةِ هذا المحل ليمتلئ بمعانيها، ومنها أنّ هذا القلب شديد التقلب ومن كانت هذه حالهُ فإنه يتقلب بين الأطوار علوّاً وهبوطا، ازديادًا ونقصانًا؛ وعليه فإنه محتاج ومضطر خضوعًا وذلًا أنْ يلجأَ إلى ربه أنْ (يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك) [أخرجه الترمذي 2140]. ومنها الإرادة والطلب والقصد وغيرها من الخصائص التي تتعلق بها جملة من المنازل كالخوف والرجاء والخشوع والتوكل والاستقامة والشكر والرضا والتي نُحيلُكَ إلى كتاب الإكسير: خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين لابن القيم للاستزادة، وما سُقْناهُ هنا فهو سَوقُ التمثيل للفائدة لا حصرها. 

وحتى تكتمل هذه المنظومة فيأخذها صاحب الجِدّ بالجدّ وصاحبُ الغفلة بالتذكّر و الإنابة لابد من التعريج على أهمية إعادة مركزة المركزيات في حياتنا وموضعتها موضعة صحيحة بحسب أولويّتها و ثقلها في ميزان الوحيين؛ الكتاب والسنة، و الحديث عن ضرورة استحضار معاني التزكية و علاقة الإيمان بالوقاية من الشبهات والشهوات تحصيناً وتمكينا، و تصوُّر بوصلة إصلاحية يستنير بها حادي الركب في تفريج كل كرب تدفع بإشارتها إلى الوجهة الصحيحة عواملَ اليأس و الإحباط التي قد تعتري المصلحين و الصالحين لاستوحاش الطريق و كثرة المتنكّبين، وتذكيراً لهم بسنّة الله في المدافعة والابتلاء التي لن تجد لها تبديلًا ولا تحويلًا تمحيصًا للحق من الباطل وتمييزا للخبيث من الطيب. وهذا ما سنترُك له المجال للحديث عنه في مقام لاحق في هذه الجمهرة المباركة كختام المسك في هذا الباب، فخذها بقوة.


فهذا أوان رسيس اليقظة وإيقاظ الهمم؛ من شمَّر فاز ومن نَكَصَ غُرِم. لا انصافَ حلول ولا شبه مواقف، فإنّ الشياطين اجتالت العباد، وزينت لهم الفواحش والفساد، فصار هوى النفس متبوعا، وصوت الفطرة مكبوتا، حتى غدا القابض على دينه كالقابض على جمر، والعدو عاقدٌ عزمه، نفر بقدّه وقديده، وأَجْلبَ بخيله ورَجِلِه ليشغلَك بالتافه عن المهم، وتغريبِكَ بالمستحدث عن الطارف التليد، يُلقون إليك زخرفَ القول غرورًا يبغونَك آثاما وشرورا ، فالحذرَ الحذر، والهمّة الهمّة بما أوضحناه لك من أمر العبودية، وما سنسوقه لك ذكرى من صفحات مضيئة لمن صدَقوا الله العهدَ فأنجز لهم الوعد، لأنّ الله يأبى إلاّ أنْ يُتمّ نوره ولو كره الكافرون، وما كان الله ليُضل قوما حتى يبين لهم يتقون، قيّضَهم ربانيين يُفزَع إليهم في النوائب، يوضِّحون الدروب والمسالك مستنيرين بمشكاة الوحي: الكتاب والسنّة، وأنت متروكٌ بعد ذلك لأمر نفسك؛ بل الإنسان على نفسه بصيره ولو ألقى معاذيره، تسوقُها إلى نارِ وسعير، أو جنّةٍ لباسهم فيها حرير. والسلام.

بقلم: محمد أبونجا.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة