🔸الإرهاب:
منذ قديم الزمان أدرك الزعماء السياسيون أهمية تخويف شعوبهم، فخوف روزفلت شعبه من الشيوعية، وخوف هتلر شعبه من الشيوعية والرأسمالية معا، ومنذ أواخر الستينات بدأ عصر الوفاق بين المعسكرين وبدأ العمل على تنمية مصدر جديد، وأخذ الترويج لهذا المصدر شيئا فشيئا إلى أن أعلن رسميا أنه مصدر الخوف الرئيسي لدى الجميع وهذا هو "الإرهاب".
هو مجرد كلمة ولكن هذه الكلمة يمكن عن طريقها تعبئة الجيوش وترويج السلع وتبرير حملات استعمارية جديدة.. إلخ والفكرة بدأت باكتشاف أن هناك حاجة ماسة لتخويف الناس، فالخوف يوحد بين الناس ويجعلهم أكثر استعداد لقبول الأوامر والتنازل عن حرياتهم.
كان اختيار هذا الاسم موفقا، فأنت عندما تصف شخصا ما بأنه إرهابي لا تخبرنا عن سبب خوفك منه أو نوع العمل الذي يقوم به، أنت تخبرنا فقط عن أثر هذا العمل، وكأنك بدلا من أن تقول إن تحت المقعد قنبلة أو بندقية تقول إن تحت المقعد شيء "مميت".
والإرهابي قد يكون أي شخص، فقير أو غني أو غيره، فالمهم ليس الدافع الذي أدى إلى العمل الإرهابي بل أثر هذا العمل في الناس، فصدام حسين مثلا بدأ حياته صديقا مقربا إلى الأمريكيين، يعاملونه باحترام بالغ ويغرقونه بالمعونات، ثم تحول فجأة إلى عدو لدود لهم يصفونه "بالوحشية" أو "بالإرهابي".
من أسهل الأمور إقناع الناس بكذبة كبيرة من نوع تخويف بالارهاب، فنحن نصدق مثلا أن بوش اتخذ قرارا بغزو العراق مع اعتقادنا في نفس الوقت بأنه رجل محدود القدرات العقلية لدرجة تدعو للسخرية أحيانا، ولكن تكرار الكذبة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة يصبح الأمر جادا وممكن التصديق.
🔸التقدم إلى الخلف:
في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي خيم على المثقفين الأوروبين شعورا ثقيلا بالكآبة والتشاؤم من مستقبل أوروبا والعالم، وكان من الطبيعي أن تعتري هؤلاء المثقفين شكوكا قوية حول صلاحية النظام الرأسمالي في تحقيق الرخاء وفي فكرة التقدم في مثل هذه الظروف، وكان من أوائل من عبروا عن شكوك قوية في فكرة التقدم الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي إذ نشر كتابا مدهشا أسماه "عالم جديد رائع" في عام ١٩٣٢، وفي عام ١٩٤٨ نشرت رواية أخرى بعنوان "١٩٨٤" لها شبه كبير برواية هكسلي لكاتب شهير آخر هو جوروج أورويل، وقد ازداد الاهتمام بالروايتين اهتماما شديدا خلال أحداث ١١ من سبتمبر ٢٠٠١.
كل من الكاتبين على مستوى عال من الالتزام الخلقي والاهتمام بقضايا المجتمع والإنسانية، وقد كتبا كل منهما روايته مدفوعا بشعور قوي بالخوف والتشاؤم من المستقبل الذي يهدد العالم.
عاصر هكسلي بوعي كامل مآسي الحرب العالمية الأولى، وتوصل بفكره الثاقب واتساع معرفته إلى أن ما أحرزه الإنسان من تقدم علمي وتكنولوجي سيؤدي إلى أفول الديمقراطية وتقلص ما يتمتع به الناس من حرية، فالتقدم العلمي والتكنولوجي يسمح بطبيعته بتركز السلطة والقوة في أيدي قلة تقوم بفرض إرادتها على الآخرين، مستخدمة أدوات قهر مادي ومعنوي، وسطوة وسائل الإعلام في التأثير على عقول الناس وغسل أدمغتهم وهذا ما أسماه هكسلي "تشكيل عقول الناس منذ الطفولة".
فدور وسائل الإعلام في التحكم بمشاعر الناس وتوجيهها، لا تقدم لهم أخبارا واقعية في حد ذاتها، بل تقول عكس الحقيقة بالضبط، فعلى حد تعبير هكسلي: "قول الحق شيء عظيم فعلا، ولكن الأعظم منه، من وجهة النظر العلمية، السكوت عليه" وذلك بإغراق الناس في عالم من المتع والملذات واستهلاك السلع وأفلام الجريمة... إلخ، وأختم بما ذكره هكسلي في كتاب آخر له يصف التقدم التكنولوجي بأنه لا يزيد عن أنه يؤدي بالمجتمع "إلى السير إلى الخلف بكفاءة أكبر!".
🔸إصلاح أم تحديث؟
منذ وقعت أحداث ١١ سبتمبر المفزعة اختلط الكلام عن الإصلاح اختلاطا شديدا بالكلام عن التحديث وكأن الإصلاح مترادفا للتحديث، فمفهوم الإصلاح في نظر من كتبوا في الموضوع هو أن تفعل مثلما فعلت الدول الأخرى، فإن فعلت مثلما يفعلون ودخلت في العالم الحديث تكون قد قمت بالإصلاح المطلوب ويتمثل ذلك في ما تنشره عادة هيئة الأمم المتحدة حول الإصلاحات في الدول "الأقل نموا" برفع معدلات النمو وفي تحقيق استقلال الفرد وتحرير المرأة... إلخ ومن ثم عمل احصاءات معينة ومقارنة الدول ببعضها أيهما أكثر تقدما من غيرها، بافتراض أن الهدف المرغوب من الجميع واحد وأن السير نحو هذا الهدف هو المعنى الوحيد للإصلاح.
من وراء هذه النظرة يكمن الاعتقاد الراسخ بفكرة التقدم بأن التاريخ الإنساني تاريخ تقدم مستمر، الأحدث فيه أفضل دائما من الأقدم، فما الذي الذي يمكن أن يكون أفضل من تقليد من حقق التغيير بأسرع منك؟ إنه لمن قبيل القسوة البالغة أن تفرض أمة على غيرها أن تتبنى عاداتها ولغتها ودينها بحجة أنها عادات أمم أكثر حداثة أو أكثر تطورا.
في عام ٢٠٠٤ أعلنت الولايات المتحدة عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وذلك لإعادة ترتيب الشرق الأوسط حيث يمكن تصنيف ردود الفعل عليه إلى ثلاثة أصناف:
▪️الفريق الأول: يرحب بالمشروع ويشيد به، ليس لأنه يتفق مع رغباتهم وميولهم، بل لأنهم مفتونون أشد الفتنة بنمط الحياة الأمريكية، لذلك يتمنون لو يغمضون أعينهم ثم يفتحونها فيرون بلادهم قد أصبحت قطعة من أمريكا، وهم يشكلون خطرا على تراث العرب والمسلمين، ويكرهون أي شيء له علاقة بالتراث.
▪️الفريق الثاني: يرفض المشروع ويعاديه، لأنه يهدد تراث أمتهم وتقاليدها، فهم يريدون أن يفعلوا بعكس ما تريده أمريكا بالضبط؛ لأنهم يكرهون كل ما هو أمريكي قائلين: لا نريد أن يفرض علينا الإصلاح من الخارج، إذا أردنا الإصلاح فلنقم بذلك بأنفسنا (بيدي لا بيد عمرو). يريدون الرجوع إلى التراث والتقاليد واحياءها بعيدا عن أمريكا وعن كل ما هو أمريكي.
▪️الفريق الثالث: يحبون تراث أمتهم ويحترمونه، ويكرهون أو لا يطيقون كثيرا من جوانب الحياة الأمريكية، ولكن يقرون بأن هناك من جوانب الحياة الأمريكية ما يجدر الاقتداء به وتعلمه، وإنه لمن الأفضل التخلص أو تغيير من بعض التقاليد والعادات الموروثة.
فإذا نظرنا مثلا في قضية تمكين المرأة، نرى أن الفريق الأول يؤكد من قهر المرأة العربية وأنها لن تنال حقوقها إلا بمعاملتها كما تعامل المرأة الأمريكية، بينما يرى الفريق الثاني عكس ذلك، إذ يرون أن المرأة الأمريكية أو الأوروبية متحررة أكثر من اللازم، وأنه يجب منع أي مشروع يسمح من تحرر المرأة العربية، وأما الفريق الثالث يرى أن المرأة في العالم بأسره تخضع لبعض صور القهر، ولكنه لا يقبل بتحرير المرأة العربية على الطريقة الأمريكية أو الأوروبية.
في ضوء هذا نرى أن مشروع الأمم المتحدة جاء فقط ليغير بعض المعايير وتلميعها على أيدي بعض المستفيدين من التحديث لا من أجل الإصلاح، فالإصلاح المنشود لا يمكن أن يخرج عن نحاول تبني الجديد الصالح مع الاحتفاظ بالقديم الصالح أيضا. هناك بالطبع فريق يائس تماما لسبب أو آخر، من إمكانية هذا الإصلاح المتميز عن محض التحديث، ولكن هناك من لا يزال يحمل الأمل، ويستمد هذا الأمل من درجة عالية من الثقة بحيوية التراث العربي والإسلامي، وقدرته على مقاومة محاولات التحديث التي يختلط فيها القليل النافع بالكثير الضار.
وهناك ما أصاب الحضارة الغربية من ضعف، وأنها تمر بمرحلة لها كل سمات الشيخوخة، يصعب فيها إخفاء الوهن عن الجميع، فإذا بالنقد الموجه للحضارة الغربية يزداد يوما بعد يوم، وترتفع أصوات الاحتجاج على ما يمارسه أصحاب هذه الحضارة من همجية في عدوانها على أصحاب الثقافات الأخرى، بل ويبدأ أصحاب هذه الحضارة نفسها في فقد الثقة في حضارتهم وفي أفضليتها. في مثل هذه الظروف تزداد فرص الإصلاح المستقل عن التحديث، ويتجدد الأمل في تحقيق تقدم حقيقي لا يتنكر للجوانب الناصعة في تراث الأمة.
"تم بحمد الله"
#كتاب_خرافة_التقدم_والتخلف.
#العرب_والحضارة_الغربية_في_مستهل_القرن_الواحد_والعشرين.
#للمؤلف / #جلال_أمين.
#العرب_والحضارة_الغربية_في_مستهل_القرن_الواحد_والعشرين.
#للمؤلف / #جلال_أمين.
إرسال تعليق