U3F1ZWV6ZTE4OTE5ODMyNDAxMDQ5X0ZyZWUxMTkzNjI2NjI5MjY0OQ==

المراقي العلية في سيرة من حقق معاني العبودية | علي عبد الله الأزرق

 



الحمد لله القائل: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب 23]، والصلاة والسلام على نبيه المختار رحمة للعالمين، المعلم والقائد، ذو الكفاءة الحازم، معلم الأمة وسيدها، كامل الخصال، لم يتحدث بأي كذبة قط، رميّ بالحجارة فلم يجزع، شج وجهه فلم يقنط، وقيل عنه: أنه خرج من مكة هاربًا ليس ذمًّا بإطلاق، بل فيه تفصيل: فإن قصد القائل: أنه خرج نتيجة جُبن وخور، وفرارًا من تبليغ رسالة الله تعالى، ومواجهة المشركين، ونحو ذلك.. ومع ذلك قاوم كل أنواع النبذ والشتم، ليُوصل لنا هذا الدين العظيم، الذي بنى من خلاله الأمة وهويتها، وأنشى عظماء تهابهم جبابرة الروم والفرس والشياطين؛ فهذا الفاروق "عمر بن الخطاب" _رضي الله عنه_ الذي عُرف بها بين أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن الشيطان كان يفر منه، ويسلك طريقًا غير طريقه.

إن لكل زمانٍ رِجالٌ وفتية تُقام الأمة من أجيج صدقهم، وتُسد الثغور من فتيل إيمانهم، وتبنى أواصر هذا الدين بعزم يقينهم، وقوة ثباتهم، حملوا عزة الإسلام بين جوانبهم، وكبرياء الإيمان يتوقد من افئدتهم، {وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} [آل عمران 146].. فإليكم قصة بطلٍ من أبطال الأمة المجهولون...

"ما ضرهم ألا يعلمهم عمر؟ يكفيهم أن الله يعلمهم" (عمر بن الخطاب).

 واندلعت شرارة اليرموك...

(لا شك أن جميعنا قد سمع باسم أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وخديجة بنت خويلد، وعائشة وصلاح الدين الأيوبي، وقطز، والبخاري، والشافعي

 وأبي حنيفة، وابن بطوطة، وهارون الرشيد، وعمر المختار، وغيرهم الكثير من عظماء هذه  الأمة، ولكن الحقيقة الغائبة عنّا أن هذه الأمة لم تقم على سواعد هؤلاء العظام فقط، فهناك طائفة منسية من العظماء الذين كان لهم نصيب الأسد في نهوض أمة الإسلام عبر جميع مراحلها... كل ما نعرفه عن بطلنا هذا أنه غلام دون العشرين من عمره، وأنه ينتمي إلى قبيلة الأزد القحطانية التي خرَّجت الكثير من عظماء هذه الأمة، وقصة بطولته في اليرموك تبدأ عندما خرج فارس ضخم من جيش الروم يطلب المبارزة قبل أن تبدأ المعركة كعادة الجيوش قديمًا، عندها ومن بين جيش المسلمين الذي يكفي أن نقول أنه كان يضم بين صفوفه 100 من البدريين، خرج غلام من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، فجرى ناحية أبي عبيدة بن الجراح وقال له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، واجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟ فهزت هذه الكلمات قلب أبا عبيدة بن الجراح، فأذن له، فمشى هذا الغلام الأزدي ليقابل مصيره ولكنه توقف فجأة... فأدار وجهه تجاه أبي عبيدة وعيونه تشرق نورًا في لقطة أشك أن باستطاعة أي مخرج في العالم تصويرها، فنظر في عيني أبي عبيدة عامر ابن الجراح وقال له كلمات لا تنبع إلّا من شباب أمة الإسلام: يا أبا عبيدة، إني عازم على الشهادة، فهل تُوصيني بشيء أوصله إلى رسول الله؟ وما أن سمع أمين هذه الأمة هذه الكلمات أجهش أبو عبيدة في البكاء فقال له والدموع تبلل لحيته: "أَقْرِأ رسول اللّه مني ومن المسلمين السلام وقل له يا رسول الله... جزاك اللّه عنّا خيرًا، وإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا"، فانطلق ذلك الغلام الأزدي كالأسد الجارح نحو العملاق الرومي وقاتله حتى قتله، فأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين، فعلت صيحات الله أكبر في جيش الموحدين، ثم عاد الغلام من جديد إلى جيش الروم وصاح بهم صيحة هزت كيانهم: هل من مبارز؟ فخرج له فارس ثاني لا يقل ضخامة عن سابقه، فبارزه بطلنا فقتله، فتقدم رومي ثالث فقتله، ثم رابع فقتله، فتعجب الروم من أمر ذلك الغلام الذي يقبل على الموت بنفسه.

 ومع الفارس الروماني الخامس، تحققت أمنية ذلك الفتى المجهول في الشهادة، فقطع ذلك العلج الرومي رقبته، فطارت رقبة الغلام على الأرض فاستشهد ذلك البطل المجهول ليوصل رسالة أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى رسول اللّه، ولتبدأ فصول ملحمة إنسانية خالدة ما عرفت أرض الشام مثلها من قبل... لقد بدأت معركة اليرموك! لقد بدأت هذه المعركة الباسلة، فاندفع جيش يقترب من نصف مليون مقاتل كأنهم سيل جارف نحو 32 ألف مسلم فقط، فأصبحت جحافلهم تندفع نحو المسلمين كأنها أسراب جراد تنتشر من كل اتجاه، فقاتل المسلمون بشراسة، إلّا أن أعداد جيش الإمبراطورية الرومانية كانت أكثر من أن تحصى، فلا يقتل المسلمون واحدًا منهم حتى يظهر عشرة مكانه!

فمالت كفة الروم في المعركة، وحاصر الرومان جيش المسلمين من كل جانب، وأصبح المسلمون قاب قوسين أو أدنى من هزيمة ساحقة، وعند تلك اللحظة فقط يظهر دور العظماء، وعند تلك اللحظة فقط جاء دور عظيم جديد من عظماء أمة الإسلام...، هذا العظيم اتخذ أصعب قرار يمكن أن يتخذه الإنسان في حياته، فمن قلب معمعة المعركة قرر هذا العملاق الإسلامي إنشاء أول كتيبة من نوعها في تاريخ الإنسانية جمعاء، هذه الكتيبة عرفت

في كتب التاريخ باسم "كتيبة الموت!" فما هي قصة هذه الكتيبة الفدائية؟ وكيف حوَلَّت مجرى المعركة بشكل عجيب؟ ومن هو ذلك البطل الإسلامي العظيم الذي كتب اسمه بحروف من نور في سجل الشرف الإسلامي؟ 

بدأت قصة هذا العملاق الإسلامي من على متن سفينة في منتصف بحر هائج قبالة سواحل اليمن، فلقد هرب عكرمة بن أبي جهل من مكة هائمًا لا يعرف إلى أين يتجه بعد أن دانت مكة بأسرها لعدوه وعدو أبيه من قِبل محمد بن عبد الله... فجاءة مرحلة الاختيار الرباني بعد أن كان طريدًا في صحاري العرب، وأبى الله إلا أن يعيد ذلك الهارب من الله إلى الله! وبشكلٍ غريب تحولت أمواج البحر الصافية تلك إلى أمواج عاتية تعصف بالسفينة، وعندما أدرك الربان بأنهم غارقون لا محالة توجه نحو ركاب السفينة وبينهم عكرمة وقال لهم: اتركوا دعاء أصنامكم الآن وأخلصوا الدعاء له وحده، فإن آلهتكم لا تغني عنكم هاهنا شيئًا. فتعجب عكرمة من قول هذا الرجل، وقذف الله في قلبه الإيمان. فأخذ عهدًا إن عافاه الله مما هو عليه، فإنه سيأتي محمدًا ويضع يده في يد محمد. فلما رأى نبي الرحمة ابن أبي جهل ألدَّ أعدائه قادمًا نحوه وثب من غير رداء فرحًا به وقال: مرحبًا بالركب المهاجر. فتحول قلب عكرمة بن أبي جهل من قلب رجلٍ مبغض حقود للإسلام والمسلمين إلى قلب رجلٍ لا يحب في الدنيا أكثر من هذا الدين الذي لطالما حاربه، فقرر أن يتحول إلى جندي ينشر هذا الدين الذي طالما حاربه، فلم يترك بعد إسلامه غزوة مع رسول الله إلا وشارك فيها... ثم جاءت المعركة التي خلدت اسمه في حروف من نور، هناك في وادي اليرموك، عندما أوشك نصف مليون من الروم على تدمير جيش المسلمين بعد أن قاموا بمحاصرتهم من كل جانب، تناول هذا البطل الإسلامي الفذ سيفه وكسر غمده واتخذ القرار الأصعب على الإطلاق في حياة أي إنسان، لقد اتخذ عكرمة قرار الموت، فنادى بالمسلمين بصوت يشبه هزيم الرعد: أيها المسلمون من يبايع على الموت؟ فتقدم إليه 400 فدائي من فدائي الإسلام، ليكوَّنوا ما عرف في التاريخ باسم "كتيبة الموت الإسلامية "، عندها اتجه خالد بن الوليد نحو عكرمة وحاول منعه من التضحية بنفسه، فنظر إليه عكرمة والنور يشرق من جبينه وقال: إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول اللّه سابقة أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول اللّه فدعني أكَفّر عما سلف مني، ولقد قاتلت رسول الله في مواطن كثيرة وأفر من الروم اليوم؟! هذا لن يكون أبدًا! فانطلقت كتيبة الموت الإسلامية، وتفاجأ الروم بأسود جارحة تنقض عليهم لتدكدك جماجمهـم، وتقدم الفدائي تلو الفدائي من وحدة الموت العكرمية نحو مئات الآلاف من جيش الإمبراطورية الرومانية، وتقدم عكرمة بن أبي جهل بنفسه إلى قلب الجيش الروماني ليكسر الحصار عن جيش المسلمين، واستطاع فعلًا إحداث ثغرة في جيش العدو بعد أن انقض على صفوفهم انقضاض طالب الموت...) من كتاب: [مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ ص95].

وعلى ذكر عظماء هذه الأمة، لا ننسى نماذج وعظيمات حفلت ذاكرة التاريخ الإسلامي بتخليدهن، وقد ذكر لنا القرآن الكريم بعض هذه النساء الصالحات؛ لكي يكنَّ قدوة يُحتذى بهن إلى يوم القيامة.

جاء في القرآن الكريم ذكر العظيمة "آسية بنت مزاحم" فقال الله -تعالى-: {وضرب الله مثلًا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتًا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11]، وفي البخاري يقول -صلى الله عليه وسلم-: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضلِ الثريد على سائر الطعام»؛ (الثريد: طعام من خبزٍ مفتوت ولحم ومرق).

وآسية بنت مزاحم -رحمها الله- لم تكن مجرد زوجة عادية لرجلٍ عادي، كانت ملكة من ملكات مصر أنداك، لديها من الذهب والزينة ما لا يحصى ولا يعد، ورغم ما تملك من زينة وملك، إلا أنها تركت كل ذلك في سبيل الله، في سبيل هذا الدين العظيم، وقبل أن يكون انتصارها على فرعون، فقد انتصرت على نفسها أمام كل أملاك الدنيا، فباعت أملاك الدنيا واشترت بيتًا في الجنة. أي عظمةٍ، وأي أيمانٍ ملكته هذه المرأة في سبيل الله؟!

بقوة إيمانها انتصرت على أقوى جبار عرفته الأرض آنذاك، انتصرت على "فرعون" الذي قال: أنا ربكم الأعلى!

أنت/وأنتِ!


تأمل عظمة هؤلاءِ الأبطال الذين ضحوا بعرض الدنيا وما فيها من أملاكٍ ومقتنيات، ضحوا بكل ذلك في سبيل ماذا؟ في سبيل الله، ونصرة الدين الحق.

ثغورهم أشد من ثغرك اليوم الذي لا زلت تتطلع إليه وينتابك الشعور بفواتِ ملذاتِ الدنيا ومقتنياتها المادية! انفض عنك هذا الشعور الذي يُشعرك بالضعف تجاه الدنيا، وانظر إلى من سبقوك في سبيل الله، ولازم ثغرك، مهما كانت المشاق، ولا تقعد ىىىى القاعدين، ولا تبرح حتى تبلغ... {فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون} [يونس 58].


بقلم: علي عبدالله الأزرق
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة