U3F1ZWV6ZTE4OTE5ODMyNDAxMDQ5X0ZyZWUxMTkzNjI2NjI5MjY0OQ==

وقفة مع الفردانية وتفريغ المجال العام..ظاهرة التدين الظاهري ومآلاته | مصطفي نصار




 سأقدم مقالتي عن الفردانية وسعيها لتفريغ المجال العام بالقول: إنها أفيون الذات الحديثة، وأقتبس من كارل ترومان قوله: “لقد صاغت العلمانية تشوهًا حتى في عقول المتدينين”.


في ورقته البحثية المطولة، يضع الباحث عبد الله الوهيبي يده على مشكلة العصر الحديث؛ وهي فقدان المعنى في النفس. فأصبحت النفس فارغة كفراغ الكأس من الماء. ولا يتذكر الإنسان ربه إلا عند مواقف محددة تحدد مصالحه ومفاسده. وبناء على ذلك، فُرغت النفس من أي أبعاد موزونة لها ثقلها. وهو ما ترتب عليه بالتالي استبدل البعد الثقيل ببعد أخف ثقلًا وحدّة وتحررًا من اتباع القيود.

هل نحن في مرحلة مختلفة؟

مما لا شك أن هذه المواقف تتخذ من النفس جزءًا صغيرًا من هذه القواعد لارتداء ثوب الروحانية الجديدة. وتصبح النفس متمركزة حول المادة والعمل، وبهذا تصبح النفس هشة قابلة للتحطم مما يجعلها مهشمة غير عابئة إلا بنفسها.

بعد الأنانية والهشاشة، تأتي مرحلة التيه الذي وقعت فيها الدول الأوربية، فقد أضحت مفككة ذاتيًا، وينتقل التفكك للمجتمع، ليتحول من مجتمع الاستقرار لمجتمع التفكك واللا معيار بحسب دوركايم (1) ويصبح المجتمع مجتمع اللامعيار فترة طويلة حتى ينتقل للمرحلة التالية.

المرحلة التالية لذلك هي مرحلة الذوبان التام في الأشياء المادية، فيقلب العمل لعادة مستمرة، سواء أكان غربًا، أو شرقًا، لتحقيق شعارات فارغة مثل تحقيق الذات، فتتحول النفس لمحض آلة تبحث عما يحقق لها السلوان وما يعوضها من فقد، فالفقد يعوض بالروحانية الجديدة المختلة نظريًا أو بأي خلل آخر مثل الحيل النفسية كالإنكار وقلة الحيلة فقط لاحتجاجها شيء صلب تتركز إليه.



النفس التائهة في مجتمع سائل

في كتاب “العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة”، يضع المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري (2) خطوات لتصفية وإزاحة المضامين الدينية عن المجال العام وعن النفس كذلك، فيضعها في 3 خطوات أو مراحل تشبه لحد كبير مراحل السيطرة التي تحدثت عنها ناعومي كلاين في كتابها القيم “عقيدة الصدمة” (3)، وهي:

الجهل أو تصفية المفاهيم الدينية وقصرها على الشعائر فقط مما يجعل المرء يظن أن الدين متمركز حوله وليس العكس.التشوه أو الخطأ في تصور المفاهيم الأخلاقية الكلية والسعي لاستبدالها.إزاحة الأصل تمامًا وتنحيته جانبًا ووضع منظومة ورؤية شاملة يطلق عليها “العلمانية الشاملة”

رغم اختلاف كتاب كلاين عن كتاب المسيري، إلا أن الكتابين يشتركان في تفسير تيه النفس الحديثة بعد مرحلة التمركز حول البعد الواحد، سواء أكان لعبة سياسية أم لا، فالمهم هنا هو الذوبان وتحقيق المراد الذاتي الذي يصاغ وفق نظرية أنساق المعرفة الغربية، خاصة النسق الرأسمالي.

يركز النموذج الرأسمالي على زعزعة مفاهيم كبرى، ونقل الدين من المركز واستبداله بالإنسان، ثم تفريغ الإنسان من أي بعد آخر عبر خلق وهم الاستقرار والسكينة في أشياء متعددة، وهكذا يرتكب هذا الوهم ما رُسم لأجله وهو عدم وقف واستمرار دوران عجلة رأس المال حتى لا تتوقف عجلة الإنتاج المرسوم له.

كلما أحكم رأس المال سيطرته على العقل، تاهت النفس في غياهب الشركة أو المصنع التي تعمل فيها، وما هي إلا أيام حتى تندمج النفس قسرًا مع رأس المال الذي يلغي العقل ويتسبب في فقد البديهيات ويتآكل المنطق مع الوقت بسبب الوظيفة الهزلية (4).

ليس غرض الوظيفة الهزلية جعل الإنسان هشًّا أو ممزقًا أو مشوهًا، بل تأكيد استمرارية التشوه النفسي وانتصار الأمراض النفسية كالحزن والاكتئاب وتمييع الحياة ككل، وذلك كتمهيد قبول الإنسان أن يكون آلة تتعامل مع الحياة كرجل آلي لا كبشر، وهكذا تخترق بنجاح التدين وتجعله بُعدًا ظاهريًّا بعد مرحلة التآكل التي مر بها الإنسان.

تآكل العقل الحديث

من المؤكد أن العقل الحديث عقل منهار ومجنون لاعتماده على أسس تنفد، فيصدأ العقل ويموت. تمر مرحلة التآكل العقلي بداية بتآكل عدة أشياء كانت تمنع الإنسان قديمًا من السقوط والاختلال، ومن أهم تلك الأشياء هو تنظيم الإنسان لحياته الشخصية بحيث تناسبه وتمنحه القدرة على التأقلم مع ظروفه. فمنذ ظهور فكرة التصنيع، انقسم الإنسان لشخصين: العامل والمنتج، معلنة بذلك نهاية الاستقرار وتآكل الشخصية الخاصة بكليهما. وهو ما يعمل على تفسيره الفيلسوف الأمريكي ريتشارد سينيت في كتابيه “سقوط الإنسان العام” (5) و”ثقافة الرأسمالية الجديدة” (6) حيث يؤكد أن سقوط الإنسان بسبب التصنيع تابع لتكوّن ثقافة جديدة مفادها أن الإنسان يدور في فلك ضيق من المال إلى الأسرة إلى السوق، وهو ما يجبر الإنسان على الرضى بالفتات الذي يرمي له، وكذلك يتقلص إحساسه العميق بالوقت أثناء العمل، فترفض الشركات ذلك مخافة الانهيار على رؤوس أصحابها بسبب عيبها وهيكلها الخرب الذي يعمل على تذويب الإنسان.

ينتج عمّا سبق ما يسمى “بالاختراق المالي للإنسان” (7) الذي يتمحور حول الاقتصاد والوظيفة والمنصب والأسرة إن وجدت، فكان لابد من إيجاد بديل يسد فراغ الإنسان ويمنّيه بالاستقرار المنهوب والمهدور بداخله.



زيف مصطلح التدين الظاهري

للاستقرار السائل عدة مراحل في الغرب، أهمها وأخطرها جاءت في القرن التاسع عشر، حيث تصاعد بشكل متتال نقد الثوابت، مما جعلهم يعلنون موت الإله -على يد نيتشه-، ووصلت محاولاتهم أخيرًا إلى محو الإنسان على مدار قرن ونص -أي إلى الآن-.

ما جعل تلك الحركات حقًا تسيطر وتهمين على ميادين الفكر والثقافة والسياسة هو سيطرة الاختزال الممل الذي يقول “الدين هو سبب كل الشرور لتقييده الإنسان وجعله للعقل يبدو مجرد أداة”، وما يبدو غريبًا هنا هو وقوعهم فيما كان ينتقدونه بشدة، فالإنسان الآن ليس إلا حيوان طبيعي تقذفه قوى الطبيعة والشركات العالمية كما أوضح عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا وليام دافيز (8).

إن التأخر النسبي لتأثر العرب بذلك يعود لأمرين، الأول: تصفية المصالح الاستعمارية لهم، وثانيهما: هو عدم فهم -لدى بعض الناس- الفرق بين التدين الحق والتدين الظاهر، والوسطية المطلوبة.

ما يجري حقيقة هو غرس صورة معينة عن المتدين، فيُتَخيَّل أن المتدين مجرد شخص يصلي ويقوم بالشعائر ويلتزم بطريقة معينة من الحديث، وهذا رغم ما فيه من الحق، إلا أن المرجعية التي بنيت عليها هذه الرؤية هي مرجعية مشوّشة، وتتزامن مع رغبة السلطات في تفريغ المجال العام من الحركات الإسلامية الحقة التي تعطي المرء مظلة ليرجع إلى تدينه الفاعل في المجتمع والعالم كما أوضح ذلك عالم الاجتماع آصف بيات في كتابه “ما بعد الإسلاموية” (9).

ومزية أطروحة بيات أنها توضح الواقع التاريخي لفترة مضطربة في القرن الحالي، أي ما بين 11 أيلول إلى منتصف عقد الربيع العربي، حيث تسير مع تطورات المجتمع كاشفة أبعاده، فتبيّن مجتمعين مختلفين تمامًا عن بعضهما البعض، فقبل الربيع العربي كان المجتمع منغلقًا على نفسه مكتفيًا بما تقدمه الحكومات من آراء، إلى مجتمع منفتح يسعى للتغيير.

إن التغير الذي حدث في نزعة التدين عند الشباب جعلها تبدو فردية ومفرغة من التأثير، مثل الزجاج الهش، مما يؤكد أن “النزعة الفردانية جعلت التدين والدين علاقة أشبه بعلاقات الإشباع الفوري مما يجعل الخاسر الوحيد في كلتا الحالتين هو العبد نفسه”! (10)

مآلات التدين الظاهري

“التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ” هذا ما قاله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من قبل سنين طويلة.

تخيل معي وجود شخصين، يشبه كل منهما الآخر، ويبدوان نسخة واحدة في الشكل والسلوك، إلا أن أحدهما منافق يقلّد الثاني بهدف تحسين ذكره بين الناس.. نعم.. إن الأمر سيبدو مربكًا، ليس لأنه منافق فحسب، بل لإنه يتشبه بالآخر ويسيء له في الحقيقة، فالتفرقة بينهما صعبة للغاية لعدم وجود سمة شكلية أو أسلوبية محددة تظهِر المخادع من الصادق، والذي يميز بين الاثنين هو سمات المنافقين الحقة الواقعة بين الصلابة والسيولة، وتلك السيولة لا تنفكّ عن المتدين الظاهري، وهي سيولة تقوض أسس المجتمع الصلبة خصوصًا المجتمعات التقليدية.

إن تمتع المجتمعات التقليدية بصلابة العادات والتقاليد، بغض النظر عن صحتها، تمنع المجتمع من التقويض والانهيار، وما يجعله قابلًا للانهيار هو عدم مواجهة المجتمع أو عدم قدرته على مواجهة الأفكار الغربية، لعدة أسباب، أهمها: تعطّل التطور الفكري في المجتمع، ودعم التيارات الفكرية المتناقضة، ودعم صناعة التفاهة وفقدان البوصلة، والحرص على الإمساك بالتدين الظاهري.

إن التخلص من هذا كله لا يكون إلا بصدمة متكاملة الأركان أو بناء أسس اجتماعية جديدة تتسم بالصلابة والمرونة بشقين متوازيين، شق مادي وآخر روحي، حتى لا نقع في التناقض وعدم التوافق بينهما.

المراجع والمصادر

1-عبد الله الوهيبي: معنى الحياة في العالم الحديث، 2020، ص10

2-عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، 2001 ص46 و81

3-ريتشارد سينيت، ثقافة الرأسمالية الجديدة، دار الفارابي، ص56

4-كريستوف فولف، علم الإنسان، ترجمة د. أبو يعرب المرزوقي، مشروع كلمة ص45

5-سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث مركز تكوين ج1ص165

6-Richard Sennett’’The fall of the public man’’ verso books P34

7-ناعوم تشومسكي، الدول الفاشلة، دار الكتاب العربي ص67

8-وليام دافيز، صناعة السعادة، عالم المعرفة، المجلس القومي في الكويت رقم 464

9-آصف بيات، ما بعد الإسلاموية، دار جداول، ص65

10- إسماعيل عرفة، عصر الأنا كيف انتشرت الفردانية في العالم العربي، دار ديوان، ص140



مصطفى نصار


جميع الحقوق محفوظة © 2022 موقع السبيل


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة