فلسطين .. شجرة الزيتون في مواجهة حائط الإسمنت

بحكم موقعها الجغرافي أضحت فلسطين محط اهتمام العالم منذ القديم، إلا أن فكرة توطين اليهود فيها لم تكن قد ظهرت على مستوى القيادات والحكومات إلا عند الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت الذي وجّه نداء كل يهود آسيا وإفريقيا للعودة لفلسطين تحت رعاية فرنسا، طبعا مع ضمان مصالحها في المنطقة، والتي تتمثل في قطع الطريق المؤدية إلى الهند أمام بريطانيا. [المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، ص: 121].

إسرائيل .. الحاجةُ الوظيفيّة!

كان وصول نابيلون لمصر وبداية تدهور الإمبراطورية العثمانية سبب كافيًا لتبلور فكرة التحكّم في فلسطين، وكذا سببًا وجيهًا في تطوّر أيديولوجية “الصهيونية” وتصاعدها، خاصة مع التهديد الذي مثله كل من محمد علي باشا وابنه إبراهيم [إميل توما، جذور القضية الفلسطينية، ص: 11].

في بريطانيا باتت الصهيونية حاجة ملحة ومصيرية ضمان لمستقبل التاج، والأمثلة التي يمكن أن نوردها في هذا الصدد كثيرة -لربما لكثرتها تحتاج مقالًا كاملًا-، إلا أننا سنكتفي بما صرح به سنة 1876 “شافتسري” وزير الخارجية  وأحد أهم رجالات بريطانيا في القرن التاسع عشر، حيث يقول: ” إنها لضربة لإنكلترا إذا ما استولى أيٌّ من منافسيها على سورية، ألا تستدعي السياسة إذن أن تنمّي إنكلترا، وهي دولة تجارية بحرية عظمى، قومية اليهود وأن يرجع  إليها  فضل استيطان اليهود في فلسطين” [إميل توما، المرجع السابق، ص: 12-13].

سيتحقق الحلم البريطاني كما نعلم في الاستحواذ على فلسطين بعد ما يعرف تاريخيًّا بـ “معاهدة سايكس-بيكو ” عام 1916، وسيتحقق حلم الصهيونية في فلسطين بعد عام واحد فقط أي بعد وعد بلفور الشهير.

وعد بلفور

بداية من فرنسا مرورا ببريطانيا، وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية التي “يشعر معظم المرشحين لأي منصب عن طريق الانتخابات في الولايات المتحدة بأنه من الضروري لهم إعلان التأييد المطلق لإسرائيل من أجل انتخابهم واستمرار الدولة اليهودية، ويمثل التأييد الأمريكي لإسرائيل ضرورة لاستمرار الدولة اليهودية” [إدوارد سعيد وكريستوفر هيتشينز، إلقاء اللوم على الضحايا، ص: 5].

هذا الإسهاب يسهل على ما أعتقد الإجابة عن سؤال “لماذا إسرائيل؟ ولماذا فلسطين؟”، فالإجابة واضحة للغاية ولا تحتاج منا لذكاء خارق ولا لبحث مضن، فإسرائيل ليست أكثر من شركة أو عقدة مقاولات أنشأتها القوى الرأسمالية في فلسطين، لأهداف سياسية-اقتصادية، وجيو-استراتيجية محضة.

وهنا نميز بين الإطلاق على عموم اليهود والصهاينة، إذ هناك طوائف من اليهود ضد إسرائيل ومع فلسطين، وهذا يؤكد لنا أيضًا أن إسرائيل جماعة وظيفية كأي جماعة وظيفية أخرى، إلا أن هذا يجب ألّا ينسينا الأهداف الدينية التي تدفع بالأمريكيين إلى دعم الوجود اليهودي في فلسطين، وذلك يعود لإيمان المسيحيين بعودة المسيح المخلص بشرط قيام الدولة اليهودية وتخريب فلسطين؛ والغريب أن النبوءة المسيحية تتحدث بعد ذلك عن تقتيل لليهود على يد المسيحيين والذي حدث جزء منه في بلاد الأندلس مع محاكم التفتيش.

أسطورة أرض الميعاد

ليس وجود هذه الدولة على أرض فلسطين يعني أنها أرض لليهود، ولا أدل على ذلك من أن الوجود اليهودي في نيويورك مثلًا يعادل حجم الوجود اليهودي في فلسطين، فلم يكن للهجرة  إلى فلسطين سوى النصيب الضئيل من الهجرة اليهودية، فـبلد مثل كندا “كان يضم 150 ألف يهودي في عام 1930 بينما كانت فلسطين لا تضم سوى 170 ألفا، ولكن التحدي الأكبر لأرض الميعاد كان يأتي من البلد الذهبي أي الولايات المتحدة الأمريكية، ففي الفترة التي نشير إليها، هاجر إلى الولايات المتحدة ما بين 1890- إلى 2080 يهوديًّا، مقابل ما بين 378- إلى 965 هاجروا إلى أرض فلسطين” [اليهود أنثروبولوجيا، جمال حمدان، ص: 242].

بالطبع فإن من لم يسعفهم الحظ في الهجرة إلى الدول الغربية لأسباب تتعلق غالبا بالوضعية الاجتماعية وجدوا أنفسهم مكرهين على الهجرة نحو فلسطين، بل في أحيان كثيرة مرغمين على الهجرة نحو فلسطين تحت تهديد المافيا الصهيونية؛ ولا أدل على ذلك ما حاولت الفيلسوفة الألمانية اليهودية “حنة آرنت” شرحه في كتابها “تفاهة الشر”، حيث يعتبر هذا الكتاب مساهمة جدية من الراحلة في مسلسل فضح الصهيونية العالمية وكشفًا لحقيقة تغيب عن المثقفين قبل العامة؛ وتأكيد على حقيقة أن اليهود لم يبادوا على يد “الحزب النازي” فقط، وإنما بمساعدة الصهيونية العالمية أيضًا.

آنذاك قوبل هذا الكلام بمعارضة شديدة إلى الحدّ الذي هدد حياة الكاتبة، وحتى اليوم -رغم أن البعض يعتبرها أحد أهم مفكري القرن العشرين- فإن كتاباتها لا تلقى الترحاب لدى الكيان الصهيوني باعتبارها عدوة للصهيونية، وهذا ليس لحديثها عن تفاهة الشر بل كما أوضحنا عن دور الصهيونية في موت آلاف اليهود.

آلة الترهيب والخوف!

تقول حنة: “لقد وقع خلال هذه السنوات الأولى، إبرام اتفاقية مرضية جدًّا بين السلطات النازية والوكالة اليهودية لفلسطين “هآفره”، وفي نفس الوقت دخل مبعوثون من فلسطين في اتصال مع الغستابو والإس. إس، من تلقاء أنفسهم، ووجد اليهود أنفسهم في قبضة عدوين: السلطات النازية والسلطات اليهودية” [ينظر: حنة آرنت، تفاهة الشر، ص100-102.]

حنة آرنت

ولا شك أن اليهود تعرضوا للتقتيل على يد النازيين، وأنهم وجدوا أنفسهم منبوذين في القارة التي عملوا بجد لإشعاعها، فلا أحد ينكر مساهمتهم في بناء التفوق الأوربي، وخاصة في مجال الفكر والعلوم، فلا يمكن تجاوز كون شارح ابن رشد يهوديًّا “موسى بن ميمون”، إلا أن هذا كله لا يبرر اقتلاع الغير من أرضه واحتلالها، ولا يسوّغ تعذيب الفلسطينيين وتقتيلهم وارتكاب جرائم يندى لها الجبين في حق الإنسانية جمعاء. لا عمل -مهما كانت بشاعته- يبرر الأعمال الصهيونية في فلسطين.

يجب أن نعلم أن الوجود الصهيوني في فلسطين مؤسَّس من اليوم الأول على الخوف، فلا نتصوّر مهما حاول الإعلام أن اليهودي الصهيوني يعيش في مسرات لا ينغص حياته شيء، بل “إن التهديد الأكبر لرفاه وأمن الإسرائيليين، ليس إيران ولا سورية، إنه دولة إسرائيل ذاتها. بعيدًا عن سلوك إسرائيل العدواني والمولع بالحرب، فإن احتلالها لفلسطين لا يجعل حيوات الناس الذين يعيشون تحت هذا النظام مستحيلة فحسب، بل غير قابلة للاستدامة أيضاً” [جياني فاتيمو ومايكل ماردر، تفكيك الصهيونية، ص: 21]

ومن ثمّ، فإنه يجب على اليهودي الذي يعيش في فلسطين أن يدرك حياته على أرض فلسطين عذاب دنيوي مستمر، وأن وجوده فوق هذه الأرض الفلسطينية مسألة وقت فقط، فهما طال الزمن ستعود الأرض لأهلها، هكذا علمتنا دورس التاريخ.

فلسطين .. شجرة الزيتون في مواجهة حائط الإسمنت

أردت أن أشبه الاحتلال الصهيوني بالحائط الإسمنتي، وأحببت أن أرسم في الأذهان الوجود الفلسطيني كشجرة زيتون، لما تمثله الشجرة في ذهنية الشعوب عامة ولما تمثله لشعوب البحر الأبيض المتوسط خاصة، ولما يتماثل في ذهني -ربما في ذهن الجميع- عند تصوري لحائطِ إسمنت.

شامخة هي شجرة الزيتون، فناهيك عن أن ذاكرتها قوية للغاية فهي شاهدة على تاريخ تليد؛ ومن المعروف أن شجر الزيتون معمر، ففي بيت لحم تعيش شجرة زيتون يقدر عمرها بخمسة آلاف سنة -ويمكنك بضغطة زر أن تتأكد من ذلك-، ولطالما حضرت شجرة الزيتون جمعات العائلة الصباحية والمسائية، وعلى طول الساحل المتوسط يعد زيت الزيتون مكوّنًا أساسيًّا في نظامه الغذائي، وكم هي المرات التي اضطررننا لقطع الفطور صباحاً إثر نضوب غير متوقع لزجاجة زيت الزيتون أو لتعبئة المزيد من الزيتون الأسود اللذيذ.

تتمثل الشجرة في مخيلاتنا الأصل والبقاء، ويقف الحائط الإسمنتي على الضد من ذلك فهو كالضيف الثقيل على القلب، أو كجارٍ مؤذٍ، أو كمسخ يشوّه اللوحة الزيتية بلعابه المقزز، وفي مدرستي الإعدادية، كنت أحبذ الحلوس قرب النافذة التي تطل على جبال غرغيز، كان هذا في العام الأول، فما جاء العام الثاني حتى وجدتنا لا ننظر إلا لحائط الإسمنت. من يومها وأنا أبغض حائط الإسمنت.

لقد كان ذلك بسبب بناء السكن المجاور للمؤسسة، فقد احتاجوا لاقتلاع الأشجار المجاورة، وغيروا معالم المكان فلا تكاد تعرفه، وهكذا تريد أن تفعل الصهيونية بفلسطين، تريد أن تبني حائطها الإسمنتي الباهت على جذور شجرة الزيتون، وتسعى لصناعة تاريخها الخاص بمحو التاريخ الفلسطيني، وتغطية الجمال والبهاء الفلسطيني بإسمنتها المصمَت المستورد.

ماذا تفعل إسرائيل؟، إنها تقتل العصافير لإحلال صافرات الإنذار مكانها، تقتلع الدور لتبني المستوطنات السرطانية، تقوم بطرد العائلات الفلسطينية ونقل المستوطنين اليهود، في “آب/أغسطس 2009، بعد فرض الحصار على جزء من حي الشيخ جراح العربي في القدس الشرقية، طردت الشرطة الإسرائيلية عائلتين فلسطينيين مكونة من أكثر من 50 شخصًا من منازلهم وسمحت لمستوطنين يهود بالانتقال فورا إلى المنزلين الفارغين.” [سلافوي جيجك، مقال ضمن كتاب: تفيك الصهيونية، ص: 32].

هدف دولة إسرائيل ليس السلام كما يحاول الإسرائيليون والإسرائيليون الجدد –المطبّعون العرب- إفهامنا، إنما وضع الفلسطينيين أمام الأمر الواقع، ففي الوقت التي تدخل في مفاوضات مع الفلسطينيين ويقدّم “حل الدولتين” أحيانًا أمامهم، فإن جرافاتها تعمل على هدم منازل الفلسطينيين في مناطق متعددة، ولعلّ الأنكى من ذلك هو إجبار الفلسطيني على هدم منزله بيديه. فهل يتصور أي إنسان بشاعة كهذه؟

في الوقت الذي تورد أخبار عن اجتماع لرؤساء الدول مع المسؤولين الإسرائيليين لتباحث السلام، تبنى مستوطنات جديدة على أراضي الضفة الغربية، ويطرد الفلسطينيون من أراضيهم أو يجبرون بكل الطرق الوحشية على بيعها، وفي هذا الوقت التي يكتَب فيه المقال يقتَل فلسطيني؛ وتغتصب فلسطينية؛ وفي الوقت الذي ستقرأ في المقال لن يتوقف الأمر بل سيزداد بشاعة، وهكذا دواليك إلى ما لانهاية.

ماذا لو أردت أن أعدد جرائم الكيان الصهيوني في حق الفلسطينيين وفي حق الإنسانية، كم من الوقت سنستغرق؟ وكم من الحبر سنحتاج؟ لا أحد بإمكانه أن يحدد هذا، لأن جرائم هذا الكيان الطفيلي لا تتوقف ولا يمكن للعقل البشري استيعاب عددها وبشاعتها، وسأختم المقال بهذا المثال الذي يأتيكم برعاية المنطق الصهيوني: ففي”28 تشرين الأول/أكتوبر، حكمت المحكمة الإسرائيلية العليا بأنه يمكن لمركز “سايمون فيزنتال” أن يبني مركز الكرامة الإنسانية المخطط له منذ زمن طويل، ليكون ‘متحف التسامح’ ومهمة المتحف المعلنة ستكون إعلاء القيم الحضارية وثقافة احترام الآخرين، والعائق الوحيد الذي يتخطاه قرار المحكمة العليا أن موقع المتحف كان مقبرة المسلمين الرئيسية في القدس حتى عام 1948!” [جياني فاتيمو ومايكل ماردر، تفكيك الصهيونية، ص: 34]، فماذا يمكن القول بعد هذه الصفاقة؟