-
28 يوليو 2025 بواسطة صلاح العياشي
رغم ما نشهده من محاولات فردية وجماعية لإعادة الوعي إلى المجتمعات العربية، فإن الطريق ما زال مليئًا بالعقبات البنيوية والفكرية التي تُعيق تشكّل مشروع يقظة حقيقي ومتماسك، هذه العقبات ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكم طويل لحقب من الهيمنة، والتفكك، وفقدان البوصلة الحضارية.
انتشرت الأفكار الغربية في العالم العربي عبر التعليم والإعلام، في ظل غياب حصانة فكرية راسخة، ما جعل المجتمعات تتعامل مع كل وافد جديد بوصفه رمزًا للتقدم والتحضر.
الإرث الثقيل لما بعد الخلافة:
منذ سقوط الخلافة العثمانية، والمنطقة تعيش حالة من التمزق الثقافي والهُوياتي، غذّاها الاستعمار بإحياء النزعات العرقية والمذهبية والقومية، لتفتيت ما تبقى من الوحدة الجامعة، ومهما كانت مآخذنا على تجربة الخلافة، فإنها شكلت حاجزًا أمام التغلغل الكامل للمشروعات الغربية، وغيابها ترك فراغًا لا يزال أثره قائمًا حتى اليوم!
التبعية الفكرية واستيراد الأيديولوجيات:
أدى الانبهار الأعمى بالتجربة الغربية إلى استيراد أنماط فكرية وسياسية كاملة، دون تمحيص أو تكييف، منذ بدايات القرن التاسع عشر، فقد ساهمت البعثات التعليمية إلى أوروبا- التي أطلقها محمد علي باشا- في نقل رؤية غربية للنهضة، لكنها كانت مشبعة بروح التغريب، مما عزز الفجوة بين الأصالة والمعاصرة، ومع مرور الوقت سادت أطروحات تُحمّل الدين مسؤولية التخلف، دون الالتفات إلى السياق التاريخي والسياسي الذي عاشته الأمة.
عندما يصبح الاستيراد بديلًا عن الإبداع:
انتشرت الأفكار الغربية في العالم العربي عبر التعليم والإعلام، في ظل غياب حصانة فكرية راسخة، ما جعل المجتمعات تتعامل مع كل وافد جديد بوصفه رمزًا للتقدم والتحضر، ولأن نموذج "النهضة الأوروبية" كان حاضرًا في الذهن العربي كقصة نجاح مطلقة، جرى التماهي معه دون نقد، رغم اختلاف السياقات والمرجعيات!
ظهور الجماعات المتطرفة لم يكن حدثًا بلا سياق؛ فالكبت السياسي، وغياب العدالة، وانسداد أفق التغيير، ساهمت في دفع بعض الشباب نحو خيارات حادّة، وإنكار هذا السبب الجذري يبقي الأزمة مستمرة في أزماتها.
الأنظمة والدولة الوطنية: بين السلطة والهوية:
ساهمت قوى الاستعمار، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تشكيل أنظمة حكم استبدادية في العالم العربي، وجعلت من "الوطنية" مفهومًا يُعاد تعريفه ليخدم فكرة التقسيم أكثر من وحدة الشعوب، حيث أصبحت الحدود التي رسمتها اتفاقيات سايكس بيكو بمثابة مقدسات، تُسفك من أجلها الدماء، بينما تراجعت مفاهيم الأمة الجامعة والمسؤولية المشتركة، وهذا كان سببًا كافيًا للابتعاد عن اليقظة.
أزمة المواجهة: وعظ بلا مشروع
أمام تغوّل التغريب، اكتفى كثير من المصلحين بردود فعل وعظية، تفتقر إلى العمق المنهجي، والمبادرة العملية، والعمل الجماعي. وانتشرت ثقافة الانتظار والتمني بدل المبادرة والتخطيط، وغابت نماذج النهوض الفعلي لصالح الاستغراق في الحنين أو الخطابة.
الجهاد والالتباس الحضاري:
أثّرت الضغوط الدولية، وتبدُّل أولويات بعض الحركات الفكرية، في تغييب مفهوم الجهاد من أجل رد العدوان عن الدول المقهورة عن الخطاب العام، أو تهميشه، بل وجعله محلّ تهمة وريبة، وتحوّل دور كثير من المفكرين والعلماء إلى الدفاع المستمر ضد الشبهات في موقف دفاعي دائم، بدل المبادأة الفكرية، وهو ما أضعف الحضور الحضاري للفكرة الإسلامية.
عنف ناتج عن انسداد سياسي:
ظهور الجماعات المتطرفة لم يكن حدثًا بلا سياق؛ فالكبت السياسي، وغياب العدالة، وانسداد أفق التغيير، ساهمت في دفع بعض الشباب نحو خيارات حادّة، وإنكار هذا السبب الجذري يبقي الأزمة مستمرة في أزماتها، كما أن التعامل مع التطرف باعتباره حالة طارئة فقط، دون معالجة جذور الغضب، يُبقي الباب مفتوحًا لتكراره.
الطريق إلى مشروع نهضوي لا يبدأ بالخطاب وحده، بل يتطلب بنية فكرية متماسكة، ومشروعًا عمليًّا، وفهمًا دقيقًا للواقع.. الوعي لا يُستورد، ولا يُمنح، بل يُصنع بالتراكم، والنقد، والعمل الجماعي طويل النفس
صناعة الوعي الزائف:
تروّج وسائل الإعلام، بشكل ممنهج، لرموز فنية وترفيهية بوصفها "نموذجًا للنجاح" و"صوتًا للحرية"، في حين يتم تهميش الرموز الفكرية الحقيقية، أو تشويهها، كما تسهم بعض الكتب والروايات السطحية، والبرامج التي تُروّج للفردانية والراحة النفسية تحت شعار "التنمية البشرية"، في خلق حالة من الانفصال عن الواقع والمجتمع، ما يُضعف الحسّ الجماعي ويُكرّس العزلة.
علماء بلا مشروع:
في ظل هذا الواقع، ظهرت فئة من "العلماء الرسميين"، ممن جرى تقديمهم إعلاميًّا بوصفهم ممثلي الدين، دون أن يحملوا مشروعًا إصلاحيًّا حقيقيًّا، ما زاد من التباس الصورة لدى عامة الناس، وساهم في تفريغ الدين من جوهره التغييري.
الحاجة إلى يقظة واعية:
الطريق إلى مشروع نهضوي لا يبدأ بالخطاب وحده، بل يتطلب بنية فكرية متماسكة، ومشروعًا عمليًّا، وفهمًا دقيقًا للواقع.. الوعي لا يُستورد، ولا يُمنح، بل يُصنع بالتراكم، والنقد، والعمل الجماعي طويل النفس.
ومهما تعدّدت العوائق، فإن أول خطوة للتغيير تبدأ من تسمية الأشياء بأسمائها، وبناء وعي جمعي لا يخاف من طرح الأسئلة الكبرى، ولا يرضى بالأجوبة الجاهزة، ويبني نفسه من الداخل مستفيدًا من تجارب الآخرين دون تقليد ولا ذوبان.
المصدر/ الجزيرة.
إرسال تعليق