U3F1ZWV6ZTE4OTE5ODMyNDAxMDQ5X0ZyZWUxMTkzNjI2NjI5MjY0OQ==

بغداد الفزازي، دراسة علمية أم شوارعية| باسم بشينية

الحجم




انتشر مؤخرا مقطع لبغداد فزازي [بروفيسور جزائري] عن الصلاة في المسجد، يقول: 

"أنا قمت بدراسة في 35 مسجد، جلست أرى من يصلي خمس أوقات -في المسجد- فوجدت كل من يفعل ذلك؛ والله أنه فاشل وليس بناجح، قلت لكم؛ أنا قمت بإحصائيات، من يصلي خمس أوقات ليس ناجحا، بل فاشل. أما شخص «خدّام/ناجح» فإنه يصلي على الأكثر صلاتين في المسجد فقط، نحن دخلت علينا فكرة «صلاة الجماعة فريضة» فكان لدينا مسجد واحد في المدينة، حتى صار لدينا خمس مساجد، ثم في كل مكان نجد مسجدًا، فصار الناس يطوفون بالعبايات حول المساجد ولا يعملون!، والعمل عبادة، نحن لدينا دين «الخدمة/العمل الدنيوي» دين النجاح.

سعد بن معاذ كان فلاحًا، وكان النبي يقول عنه «سعد أعلمكم بالحلال والحرام» وكان يخاف أن يمس يد النبي كي لا يجرحه بيده التي صارت خشنة بسبب الفلاحة، فقال له النبي أمدد يدك يا سعد، فمد سعد يديه، فقبلها النبي بشفتيه، وقال لن تدخل يداك النار يا سعد أبدًا".

دقائق...

تحاكمًا لمنهجيات البحث العلمي الأكاديمي، هل يكون الفزازي بهذا الكلام بروفيسورًا أم شوارعيًا؟ مستوى النخب الجزائرية محبط حتى في منعطفه التنويري. 


١- يقول: "أنا قمت بدراسة في 35 مسجد، جلست أرى من يصلي خمس أوقات فوجدت كل من يفعل ذلك؛ والله أنه فاشل وليس بناجح".


يدعو للسخرية أن يقيم باحث دراسة متعلقة بالفشل الاقتصادي متخذًا فقط "متغيرن" حيث يكون متغير الفشل الاقتصادي تابعًا لمتغير ثابت كالصلاة في المسجد، مع أن البحوث الاقتصادية جلُّها توسع مدارك الباحث نحو متغيرات موضوعية ألصق بالحالة الاقتصادية للفرد، أما تناول متغيرين فقط، فدونه خرط القتاد في البحوث الرصينة، ذلك أنه "لا يمكن لدى تحليل الأشكال الاقتصادية استخدام المجهر أو الكواشف الكيماوية، بل يجب على قوة التجريد أن تحل محل هذا وتلك" [١] قوة التجريد! تلك التي عبر عنها ماركس بقوله "حاول العقل البشري أن يدرك شكل القيمة في سياق أكثر من 2000 سنة" [٢] 


ومع هذا، يدعي مثل الفزازي إقامة الدراسة على 35 عينة [مسجد] لتعم لاحقا على 18449 عينة! [عدد مساجد الجزائر]، فذي الطريقة لا تصلح لطالب ليسانس حتى. إذ لو رأى ذلك أدنى باحث اقتصاد لأشبعته ضحكًا.


فضلا عن أسلوب اتخاذ متغيرين في مبحث كهذا، "إن الفيزيائي إما أن يلاحظ عمليات الطبيعة هناك حيث تتجلى بأوضح شكل وحيث قلما تظللها التأثيرات المشوشة، وإما أنه يجري تجربة، إذا كان ذلك ممكنا، في ظروف تؤمِّن سير العملية بصورة صافية" [٣] بخلاف البحث المتعلق بالاقتصاد والفشل الاجتماعي، فليس معتمدًا على متغيرين في التجربة/الدراسة، بحيث تسلم من تشويش متغير ثالث أو رابع أو خامس، فإغفال تلك المتغيرات الألصق بالبحث سيؤدي حتما سير الدراسة بصورة غير صافية. وكمثال على ذلك في ذات السياق، كان يقول ماركس: 


"اللامبالاة تجاه عمل معين هو أمر يناسب المجتمع الذي ينتقل فيه الأفراد بسهولة من نوع معيَّن من العمل إلى نوع آخر، والذي يكون فيه هذا العمل عرضيا للأفراد ومن ثم غير ذي أهمية لهم. 

وهكذا، ففي نظام مثل هذا [الرأسمالي] فإن الوسائل التي يراد من خلالها الوصول إلى هذه الأهداف صارت موحدة، بذلك يبدو العمل ليس من حيث فئاته ولكن من حيث واقع ذاته، مجرد وسيلة لإنتاج الثروة بشكل عام" [٤]


فهنا لديك متغير أساسي يتبعه متغير العمل لدى أبحاث كبار مؤسسي الاقتصاد السياسي والعلمي، وهو متغير "التعليم" وأثره في اللامبالاة تجاه متغير "العمل"، كذلك متغير "الحيوية"، وهو تابع لمتغير "التعليم"، فـ "إن العمل المنزوع الحيوية، الذي يراه العمال باعتباره محض آلية لتأمين وجودهم نفسه، هو الوسيلة التي يضمن فيها رأس المال نموه" [٥] 


وذلك يكون بـ "جعل العمال غير مبالين بالعمل ذاته... فيمكن للناس الآن إنتاج الوجبات على خطوط الانتاج، من دون أن تكون لهم معرفة بالطبخ في البيت، وإعطاء تعليمات على الهاتف للعملاء رغم أنهم هم أنفسهم لا يفهمونها، وبيع كتب أو صحف هم أصلا لا يقرأونها" [٦]


وفي حين ترى الدراسة التي يتكلم عنها [البروفيسور] تخلو من متغيرات جدية يؤكد على ضرورة بحثها علماء الاقتصاد، تدرك أنك أمام "عملية عشوائية يقوم بها الأفراد حسب تصوراتهم الذاتية ونزواتهم الشخصية" [٧] وعوض أن تتم دراسة متغيرات مثل: قيمة النقد، نظرية القيمة، البطالة، غلاء المعيشة، علاقة جودة التعليم بالعمل، الإيرادات النفطية ونحو ذلك لدى طلاب الاقتصاد في دراسات تحليلية وكمية بعنوان "أثر المتغيرات الاقتصادية على معدلات البطالة"، يخرج لك باحث أكاديمي مصاب بداء الجهل المكعب ليتخذ متغير "الصلاة في المسجد" كمؤثر رئيسي في البطالة! 


فضلا عن لغة الشوارع التي يقحمها جنب كلمة "دراسة"، ماذا تعني كلمة "جلست أرى"؟ لا يقال هذا فيما يتعلق بالبحث الأكاديمي، الأكاديمي لا يجلس ليرى، بل يستعمل مناهج تحليلية وصفية، أو استخدام أسلوب كمي كأسلوب الانحدار التدريجي، SPSS، أو BI، أيا كان، فأنت باحث أكاديمي!! لا تقول "جلست أرى"، فليست البحوث الاقتصادية العلمية تتعامل باللغة التأملية أو البحث عن حشو كلام فارغ لإشباع نزوات هامشية.


٢- يقول: "كل من يصلي في المسجد فاشل"، طبعا هذا بناء على زعم دراسة لـ 35 مسجد جزائري، من أصل 18449 مسجد، تصور، ومع ذلك لا يتطرق لمفهوم الفشل، فهذا ليس بحثا علميا، كمن يقول لك "قال ريتشارد"، فهذا يجعلك تنظر لبحثه بعين الركاكة، "هل هو ريتشارد التطوري ريتشارد دوكينز، أم ريتشارد فايمان الفيزيائي الحاصل على نوبل" [٨] فأي فشل تتم دراستها بصورة علمية هنا؟ الفشل النفسي يبحثه متخصص في علم النفس، الفشل الحضاري يدرسه متخصص في التاريخ، الفشل الاقتصادي يدرسه المتخصص في علم الاقتصاد، الفشل الديني يدرسه المتخصص في العلوم الشرعية، فهذا المتغير تندرج تحته متغيرات شتى، وفي حين يقول التافِه "الصلاة في المسجد تؤدي للفشل"، ينسحب هذا على الفشل الإيماني أيضًا بما يناقض صريح القرآن كقوله تعالى ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير﴾ فالصلاة التي قال فيها ﴿واركعوا مع الراكعين﴾ هي من الخير الذي يجده العبد عند الله، فأي ناقد ولو لم يكن مسلما، ينظر في مثل ذي التناقضات يفقد الأمل في صحة النتائج لاحقا، فكيف إذا قوبل كلامه "أما شخص «خدّام/ناجح» فإنه يصلي على الأكثر صلاتين في المسجد فقط" بقوله تعالى ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة﴾. وكأنه يرد ما يدعي التحاكم إليه (القرآن) قائلا: لا، بل عليهم أن يلتهوا بالبيع والتجارة عن الصلاة. أهكذا تكون الدراسات ممن يقول "أنا شيخ"؟.


٣- يقول "سعد بن معاذ كان فلاحًا" ويدمج ذلك ضمن شواهد "الدراسة العلمية"، هذا مثل ما كان يحصل لشحرور الذي يستدل بكلام أبي موسى الأشعري وينسبه لأبي الحسن الأشعري، فالفزازي لا يفرق بين سعد بن معاذ وبين معاذ بن جبل، أما "سعد بن معاذ فقد كان سيد الأوس" [٩] ولم يكن فلاحا، وأما قوله عليه الصلاة والسلام "أعلمكم بالحلال والحرام" فلم يأت في سعد بن معاذ، بل جاء في الحديث "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، أخرجه الترمذي وغيره من حديث أنس" [١٠]. أما قصة تقبيل النبي ليده عند قوله "أضرب بالمر والمسحاة فأنفقه على عيالي فقبل النبي يده وقال هذه يد لا تمسها النار أبدا" فهذا مروي في كتاب الموضوعات لابن الجوزي [١١] وفي سنده "محمد بن تميم الفريابي، يُعرف بالسعيدي: كذّاب وضّاع"[١٢] فالرواية موضوعة، كما جاء في تاريخ بغداد: 


"أخبرنا أبو طاهر محمد بن الحسين بن سعدون البزاز، قال: حدثنا أبو علي الحسن بن عبد الله بن عمر الكرميني، قدم علينا من بخارى، قال: حدثنا أبو حفص أحمد بن أحيد بن حمدان البخاري، قال: حدثنا أبو عمرو قيس بن أنيف، قال: حدثنا ‌محمد ‌بن ‌تميم ‌الفريابي، قال: حدثنا عبد الله بن عيسى الجرجاني، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن مسعر بن كدام، عن عون، عن الحسن، عن أنس بن مالك، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فاستقبله سعد بن معاذ الأنصاري، فصافحه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له: " ما هذا الذي أكنبت يداك؟ 


فقال: يا رسول الله أضرب بالمر والمسحاة فأنفقه على عيالي، قال: فقبل النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال: "هذه يد لا تمسها النار أبدا"، هذا الحديث باطل، لأن سعد بن معاذ لم يكن حيا في وقت غزوة تبوك، وكان موته بعد غزوة بني قريظة من السهم الذي رمي به، ومحمد بن تميم الفريابي ‌كذاب يضع الحديث" [١٣] 


في الختام، يا "نخبة الجزائر" واصلوا على هذا المنوال، نحن نستمتع بتطوير ملكتنا النقدية على أطروحاتكم السخيفة. 🌹



المراجع: 

[١] رأس المال، كارل ماركس، ج١، ص١٢

[٢] رأس المال، كارل ماركس، ج١، ص١٣

[٣] رأس المال، كارل ماركس، ج١، ص١٣

[٤] Karl Marx, A Contribution to the critique of Economy, p13

[٥] نظام التفاهة، آلان دونو، ترجمة وتعليق مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، بيروت– لبنان، الطبعة الأولى ٢٠٢٠م، ص٧٢.

[٦] المرجع السابق نفسه.

[٧] أساليب البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والانسانية، فوزي غرايبة وآخرون، ص١.

[٨] أحفاد الرأسمالية الجدد، صيقع سيف الإسلام، ص١٩

[٩] مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق الأعظمي، ج٥، ص٣٦٧.

[١٠] فتح الباري لابن حجر، ج١٣، ص١٦٣.

[١١] الموضوعات لابن الجوزي، ج٣، ص٣١.

[١٢] المسند المستخرج على صحيح مسلم، أبو نعيم الأصبهاني، ج١، ص٨٢. 

[١٣] تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ج٨، ص٣١٧.

الاسمبريد إلكترونيرسالة