الكتاب: عائدٌ إلى حيفا.
المؤلف: غسّان كنفاني.
عدد الصفحات: ٨٠
روايةُ عائدٌ إلى حيفا، روايةٌ جميلةٌ بقدر الألم الذي تشعرُ به أثناء قراءتها، روايةٌ ذات أسلوبٍ واقعي ممزوجٍ بخيالٍ لذيذ، لغتها بسيطة غير مبتذلة، وصياغتها ذات طابعٍ درامتيكي، ووصفها مُتمَّمُ الأبعادِ من وصفٍ للمكان [فلسطين/ حيفا، ومناطق أخرى] والزمان [بين الفترتين: ١٩٤٨- ١٩٦٧]، ومرورًا بأبعاد الوصف الأخرى، أمّا عن حبكة القصة -برأيي- فلم تتخذ شكلًا واحدًا؛ إذ تكون تارةً في حالة توزان والأحداث تجري بوتيرةٍ مستقيمة، وأخرى تراها تتخذ شكلًا عكسيًا مقلوبًا (وهذا الغالب!).
بدأ الكاتب روايتهُ بمشهدٍ سرديٍ يصف من خلاله الحالة النفسية لبطلي روايته «سعيد س.» وزوجته «صفية»، حيثُ كانا في طريقهما إلى بيتهما الذي اضطرا إلى تركهِ قسرًا -قبل عشرين عامًا- تاركين فيه قطعةً من روحهما ليعودا فيجداها أشدُّ ما تكونُ بعدًا عنهما، وأبعدُ ما تكون انتماءً لهما!
طوال الطريق إلى وجهة بطلينا تحدّثا عن كل شيءٍ عدا السبب الرئيس الذي جاءا من أجله، ومن الأوصاف الجميلة التي صوّر بها حالة البطل وهو يستعيد ذكرياته قوله: «لم تعد إليه الذاكرة شيئًا فشيئًا، بل انهالت في داخل رأسه، كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض.»
بعد ذلك المشهد بدأت الرواية تنبض عبر وريدها النابض [الحوار]، حيث بدأ البطل «سعيد س.» يحاور زوجته «صفية»، وخلال هذا الحوار بثّ الكاتب رؤيته وجوهر موضوعه الذي يريد إيصاله؛ حيث بيّن أنّ الحرب هي الحرب ولا يوجد مسمًى آخرٌ لها، وأنّ المُحتل المغتصب يبقى محتلًا غاصبًا ولو ارتدى قناع من يتكلّف الودَّ واللّطف!
ثم ينتقل بنا الكاتب من خلال الوصف الخارجي للأماكن والزمان: «ظهر يوم الثلاثين من حزيران ۱۹۹۷، كانت سيارة الفيات الرمادية... تشق طريقها... نحو مدخل حيفا الجنوبي.» إلى الوصف الداخلي للشخصيات: «وحين كان يقود سيارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب ما تزال هناك، بصورة ما، غامضة ومثيرة ومستفزة، وبدت له الوجوه قاسية ووحشيّة...»
وفي هذه اللحظات يعودُ بنا إلى الماضي: «وفجأة جاء الماضي، حادًا مثل سكين»، حيث بدأ يسرد لنا المأساة التي حصلت في «صباح الأربعاء، ٢١ نيسان، عام ١٩٤٨.» على لسان البطل «سعيد س.»، حيث يسرد الأمر في صورةٍ تراجيدية؛ بداية من طلقةِ الرصاص الأولى، ونهايةً بالفجيعة [فقد ابنهم] التي امتدت حتى اللحظة التي هم فيها!
وبعد هذا تأخذ البطلة «صفية» زمام الحديث لتروي المأساةَ من وجهتها؛ بداية من خروجها لبحثها عن زوجها، وانتهاءً بذلك الفراغ الذي خلّفه فقد ابنها في قلبها، وهُنا يُسدلُ ستارُ أطلال الماضي «وراء غبش السماء وغبش الدموع...» ليبتدأ الكاتب فصلًا جديدًا يتحدث عن الحاضر/الماضي القريب.
في بداية هذا الفصل نلاحظ الصراع المتمثل في دواخل بطلينا من حيث ذهابهما إلى حيفا أم لا؛ وفي نهاية الأمر ذهبا في اليوم التالي، بحثًا عن أملٍ اُغتيلَ منذُ ماضٍ بعيد!
يعودُ بنا الكاتب إلى الحاضرِ الحاضر حيث تركْنا «سعيد س.» وزوجته «صفية» في سيارتهما متجهين إلى بيتهما، وعندما وصلا إلى عتبة الباب وفُتِحَ لهما، ابتدأت الأحداث تتصاعد، وبدأ الماضي يُعيدُ تشكيل صورتهِ من جديد بلسان شخصٍ آخر...! وينتهي هذا الفصل باكتشافهما أنّ ابنهما -أو حسبما كانا يعتقدانه- لا يزال على قيد الحياة!
في بداية الفصل الثالث يُعيدُ لنا الكاتب تشكيل ما حدث تمامًا خلال تلك السنين، وهنا تظهر لنا الشخصيات الثانوية -التي ساهمت في تكوّن الحدث- ومنها: رجل الهاغاناه، وإفرات كوشن وزوجته. وخلال كل ذلك السرد لم يغيّب الكاتب الوصف بأبعاده ومنها الزماني المكاني، -وإن لاحظتُ ضعفًا في الوصف الجسدي بشكلٍ خاص-. وينتهي هذا الفصل -المليئ بالمشاحنات التي حدثت بين الزوجين والعجوز «ميريام» زوجة إفرات كوشن- إلى قصّة ابن اللبدة.
في الفصل الرابع يبدأ الكاتب بقصّ حكاية ابن اللبدة على لسان «سعيد س.» وبثّ في ثناياها رسالة مفادها أنّ ما سُرِق غصبًا لا يُرد إلا بقوة السلاح، وفيه حث على تحفيز مشاعر الثورة لاسترداد ما أُخِذَ عنوة.
وفي الفصل الخامس والأخير تحين لحظة المواجهة؛ لحظة تهدّم أوهام الماضي البالية، وانقشاع الحقيقة التي ألقت بقلبيهما إلى الهاوية؛ لحظة لقائهما بشخصيتنا الرئيسية الثالثة «دوف»، والذي كان قبلًا ابنهما خلدون...!
يقولُ «دوف»: «أنا لم أعرف أن ميريام وإفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات. منذ صغري وأنا يهودي. أذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير وأدرس العبرية. وحين قالا لي إنني لست من صلبهما، لم يتغير أي شيء. وكذلك حين قالا لي -بعد ذلك- إن والدي الأصليين هما عربیان، لم يتغير أي شيء. لا، لم يتغير. ذلك شيء مؤكد.. إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية.»
«إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية.»، هُنا الحل، هنا الجوهر الذي يريد الكاتب إيصاله، وهو أن فلسطين قضية، وقضيةٌ يجب أن يتعاطاها كل مسلم منذُ صغره، قضيةٌ ليست مجرد شعارات أو استعادت ذكريات، وإنما صناعةٌ للمستقبل؛ يجب أن ننظر للمستقبل، وأن نعيد تشكيل معاني الأمور كما ينبغي، يجب أن نعمل لكي تعود فلسطين...!
📍اقتباسات أعجبتني:
«عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة....
أتقولون إن ذلك أيضًا كان مستحيلًا؟
لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي إنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقة صغيرة يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود. ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي.. أهذا ما تقوله إلي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول؟»
«وتصوّر أن مجموع ذاكرته عن خلدون كانت قبضةً من الثلج أشرقت عليها فجأة شمسٌ ملتهبةٌ فذوّبتها.»
«أليس الإنسان هو ما يُحقنُ فيه ساعة وراء ساعة ويومًا وراء يوم وسنةً وراء سنة!»