وقفات ما قبل الطوفان

image_print

إنّ الأحداث الحالية التي اشتهرت باسم “طوفان الأقصى” ليست إلا نتيجة ظلم وقهر وانتهاكات متواصلة عاشتها مُختلف الأجيال في فلسطين المُحتلّة، فهذا الجيل اليوم المُرابط في ثغور غزّة، الذي يعيش تحت القصف العنيف، ويرى استشهاد أحبّائه يوميًّا، ثم يبقى صامدًا وشامخًا ما هو إلاّ ثمرة لجيل تلقّى تربية إسلاميّة سليمة يستمدّ منها قوّته ويُحوّل ضُعفه إلى قوّة.

من هنا نتعلّم الدّرس الأوّل من طوفان الأقصى أنّه لا انتصار لهذه الأمّة ولا عزّة لها إلاّ بالعودة إلى دينها والالتزام به، وليس بما يُخيّل للبعض بالانسلاخ منه واتباع الغرب في مجتمعاتنا، حيث أنتج هذا الاتباع أفرادًا كثيرين منشغلين بقضايا لا وزن لها، ولا يُتقن معظمهم إلاّ الاستهلاك لا الإبداع، فالطوفان يدعونا لتغيير نظرتنا للحياة ومُراجعة أنفسنا والعودة لمنهج الله.. فهل من مُجيب؟!

لا بد من توضيح حقائق التاريخ

في كلّ مرّة تُطرح فيها القضيّة الفلسطينيّة يكثر الجدل حول أحقيّة اليهود بإقامة دولةٍ لهم فيها بدعوى أنّها أرض أجدادهم، ومن واجبنا هنا أن نعود للتّاريخ ونُوضّح بعض الحقائق الغائبة عنّا حتّى نفهم أصل الصّراع من أوّله وكيف وصل اليهود لأرض فلسطين وكيف أسّسوا دولة الكيان فيها وما هي أسباب الصّراع وماذا نتج عنه حيث سيكون محور حديثنا اليوم عن حقائق تاريخيّة ما قبل الطوفان.

فمن هم أهل فلسطين؟

عندما نبحث عن أصل اليهود في التّاريخ نجد ارتباطهم بسيدنا إبراهيم عليه السّلام الذي ظهر مع قومه في القرن الثامن عشر قبل الميلاد كجماعة من الرُّحَّل في جنوب العراق قادمين من الجزيرة العربيّة التي نشئوا فيها، وفي حوالي 1800 قبل الميلاد هاجر سيدنا إبراهيم عليه السّلام وقومه شمالاً ثمّ غربًا ثمّ جنوبًا حتى وصلوا إلى فلسطين. وهنالك وُلِد له إسحاق، وسيولد لإسحاق يعقوب، وليعقوب سيولد اثني عشرة ولدًا، الذين يُمثّلون الأسباط أو القبائل الاثني عشرة الشهيرة في التّوراة.

لليهود ثلاث تسميات مشهورة: “إسرائيل” وهو الاسم البديل لسيّدنا يعقوب، والعبريّون: وهو مشتقّ من هجرتهم من كلدان إلى كنعان حيث يقال إنّهم عبروا نهر الأردن أو الفرات، والتسمية الأخيرة “اليهوديّة” فهي مشتقّة من يهودا، وهو اسم أحد أبناء يعقوب الذين يُمثّلون الجزء الأهمّ من بني إسرائيل بعد رحلة الأسر البابلي.

يُثبت التّاريخ أنّ اليهود وجدوا فلسطين أرض كنعان وسكّانها الأصليون هم الكنعانيّون الذين هم في التّوراة أبناء كنعان بن حام بن نوح والذين قدموا من الجزيرة العربيّة إلى أرض فلسطين ما بين 2500 قبل الميلاد و3500 قبل الميلاد و استقرّوا فيها ما بين 1000 و 2000 سنة  وأقاموا فيها حضارة عامرة، ثمّ هاجر جزء منهم إلى ساحل لبنان عُرفوا بالفينيقيّين، وإلى جانب الكنعانيّين، الذين يُعتبرون من السّاميّين الشماليّين، كان هنالك قبائل أخرى من السّاميّين يسكنون فلسطين مثل الأيدوميين والعَمونيين والمؤابييين. أمّا الفلسطينيّون فيرجع أصلهم إلى شعوب البحر الذين يُعُدّون أقدم عهدًا من العبرانيّين في المنطقة، فقد قدموا من العالم الإيجي بسبب اضطرابات في موطنهم ثمّ استقرّوا على سواحل أرض كنعان في عام 1200 قبل الميلاد.

من أجل استقرار العبريّين في أرض كنعان كان عليهم محاربة الكنعانيّين، لكنهم لم يسيطروا إلا على الأراضي الداخليّة الفقيرة. واتّصف تاريخهم بالدّمويّة وعدم الانضباط الأخلاقي، وكثرة الحروب والغزوات، وكانت الهزيمة من نصيبهم غالبًا على أيدي الفلسطينيّين.

ما نستنتجه هنا أنّ اليهود لم يكونوا يومًا السكّان الأصليّين لفلسطين كما يدّعون، بل وجدوا فيها إثر هجرتهم الأولى مع سيّدنا إبراهيم الكنعانيّين ثمّ أصبح الفلسطينيّون جزءًا من هذا البلد، في الجانب السّاحلي خاصّة، مع سكّانه الأصليّين حيث حاربوا معهم دفاعًا عن أرض فلسطين.

وللتذكير هنا أنّ وجود الفلسطينيّين، الذين هم ليسوا بالكنعانيّين، يعود إلى حدود عام 1200 قبل الميلاد واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا فلا يمكننا القول إلاّ أنّهم يمثّلون السكّان الأصليين لفلسطين.

هاجر يعقوب في منتصف القرن 17 قبل الميلاد إلى مصر بسبب القحط الذي أصابهم، و استقرّوا بأرض جاشان مع ذريته ما يقارب 350 سنة إلى أن خرج بهم سيّدنا موسى عليه السّلام هربًا من ظلم فرعون حيث كانت وجهتهم العودة إلى أرض كنعان، إلا أن الخوف تملّكهم وقاموا بمعصية أمر نبيّ الله موسى، فكانت النتيجة أربعون سنة من التّيه في أرض سيناء، وخير دليل على معصيتهم من أجل دخول أرض فلسطين قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 24- 26]

استمرّ هذا التّيه حتّى ظهور يوشع بن نون الذي قادهم إلى أرض الأردن حيث انتزعوا بعضًا من المناطق الدّاخليّة في أرض كنعان دون الوصول للعاصمة القدس التّي كانت تسمّى يبوس عند العرب، وإيليا لدى الرومان، وأورشليم عند اليهود، إلا أنهم لم يصلوا إلى سواحل فلسطين.

لوحة تخيلية ليوشع بن نون وهو يأمر الشمس بالتوقف عن الحركة حتى لا تغرب قبل أن يتم له النصر

في عام 1000 قبل الميلاد وحّد سيدنا داوود عليه السّلام الأسباط وهزم اليبوسيّين والفلسطينيّين وأسّس مملكة إسرائيل وأصبحت يبوس (القدس) عاصمة لها وتحوّل اسمها إلى أورشليم -أي مدينة السلام- وتوسّعت هذه المملكة من دان في الشّمال إلى بير السبع في الجنوب.

وبعد تولي نبيّ الله سليمان الحكم، أطلقوا يُسمّونه بـ “صاحب الهيكل” وانقسمت الدولة إلى مملكتين: مملكة جنوبًا تضمّ قبيلتيْ يهودا وبنيامين، ومملكة إسرائيل شمالاً تضمّ القبائل العشرة الباقيةـ مع العلم أنّ حدود هاتين الدّولتين تتّفق مع رقعة الضفّة الغربيّة الحالية.

سريعًا ما أصبحت الدّولتان في حالة حرب وعداوة ممّا سهّل نهايتهما حيث تعرّضت الدولة الجنوبيّة لهجمات مصريّة على يد شيشنق في مرّة أولى ثمّ على يد نخاو في المرّة الثانية ثم قُضيَ عليها نهائيًّا على يد نبوخذ نصّر البابلي.

أمّا جارتها الشّماليّة فقد قضى عليها سرجون الآشوري في القرن 8 قبل الميلاد، ولم تبق اليهود فيها -دون حكم- سوى أربعة قرون.

ما نلاحظه هنا تعاقب الأنبياء على فلسطين حيث كانت وجهتهم الأولى بداية من سيّدنا إبراهيم ثمّ سيّدنا يعقوب ثمّ سيّدنا موسى ثمّ نبيّا الله داود وسليْمان وصولا إلى سيّد المرسلين محمّد ﷺ، وفي هذا دلالة أنّ كلّ نبيّ يأتي ويأخذ المشعل ممن قبله في فلسطين من الأنبياء والرّسل حتى كانت الخاتمة بأن أصبحت فلسطين بشرى لخاتم المرسلين عليه الصّلاة والسّلام.

ومن المعلوم أنّه لا نبيّ بعده يُسلّم له أمر فلسطين لذلك ستبقى للمسلمين إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مسؤوليّة أمّة رسول الله ﷺ، فهو قدوتهم وقد صلّى بكلّ الأنبياء والرّسل وإليها أُسريَ بِه ومنها عُرج به إلى السماء، وكانت قبلة المسلمين الأولى، وعليه فإن فلسطين بانتمائها تعود للمسلمين تتبّعًا لهذا التّسلسل المتعاقب بين الرّسل والأنبياء، وفي هذا إبطال لدعوى اليهود بإعادة بناء الهيكل وتهويد القدس لأنّ تاريخ الرسالات السّماويّة لم يقف عند سيّدنا سُليمان بل تتابع على مدى التّاريخ حتّى ختمت الرّسالة بمحمد بن عبد الله صلوات الله عيه وسلامه.

الدعاوى الصهيونية.. التاريخ والواقع

ما نلاحظه أنّه في فلسطين تأسّست مملكة يهوديّة ومن هنا ادعوا أنّ فلسطين أرضهم وأرض أجدادهم وأنّهم يعيدون بناء دولتهم في فلسطين على حساب تطهيرٍ عرقيّ لشعبٍ كاملٍ مترسخ منذ أكثر من 1200 سنة قبل الميلاد.

إن تاريخ الأمّة الإسلاميّة التي توسّعت إلى حدود إسبانيا اليوم وأسّست فيها دولة الأندلس تحت راية الخلافة الأمويّة سنة 756 ميلادي، هل يمكننا اليوم بعد مرور 1263 سنة أي ما يقارب 13 قرنًا أن نخرج الإسبانيّين اليوم من منازلهم وأراضيهم ووطنهم وتسليمها للمسلمين بقوة السلاح، لأن الخلافة الإسلاميّة أقامت دولا متعاقبة هناك؟ وإن حصل ذلك فإن العالم كله سيرفض ذلك وتغزوه الفوضى والدمار، وبالمثل، فإن الدعوة الصهيونية القائمة على هذا الأساس باطلة ولا يقبلها عاقل.

بعد سقوط المملكة اليهوديّة في فلسطين، دخل اليهود في مرحلة الشّتات والتيه، وعرِفت هذه الفترات بالشتات البابلي: الذي نُقل فيه أغلب يهود القبائل العشرة إلى بابل وتميّز هذا الشّتات باتجاهه نحو الشرق، أما الشتات الآخر فهو الهيليني: الذي بدأ بامتداد امبراطورية الإسكندر واستمرّت مع السّلوقيّين والبطالسة ثم البيزنطيّين وتميّز هذا الشّتات باتجاهه نحو الغرب.

أما الشّتات الرّوماني الوسيط: فقد اتّجه في الغالب نحو الغرب الأقصى. حيث تواصل انتشار اليهود في العالم وتشتّتهم حتى وصلوا إلى ألمانيا، وهناك تعرّضوا للإبادة على أيدي النّازيّين، ومن ثم توجهت أعداد كبيرة منهم إلى والولايات المتّحدة.

في آواخر الخمسينات قدّم الدكتور جمال حمدان نِسَب انتشار اليهود في العالم داخل مختلف القارات على النحو الآتي:

القارةالعددالنسبة المئوية من يهود العالم
أوربا والاتّحاد السوفيتي3.400.00028,8
أمريكا الشمالية5.433.00045,1
أمريكا الجنوبية633.0005,3
آسيا1.855.00015,4
إفريقيا585.0004,9
أستراليا ونيوزيلندا61.0000,5

جدول1: نِسب انتشار اليهود حول العالم [اليهود أنثروبولوجيًا د. جمال حمدان، ص: 98].

بناء على ذلك نستنتج أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة كانت المكان الأكثر انتشارًا لليهود ثم أوروبا آنذاك، ويمكننا من هنا أن نستخلص مدى تأثيرهم في السياسة الأمريكيّة ونيل الدعم لهم حيث أنّهم وصلوا إلى الكونغرس وكوّنوا لوبيات مؤثرة جعلت القوى الكبرى في العالم تتّخذ موقفًا سلبيًّا إزاء القضيّة الفلسطينيّة.

ما موقف الانثروبولوجيا؟

يشير د. جمال حمدان أن البحوث الأنثروبولوجيّة لليهود الذين احتلّوا فلسطين اليوم ليس لهم أي علاقة مع يهود التّوراة الذين أقاموا مملكتهم سابقا في فلسطين والذين يريدون إعادة بناء الهيكل من جديد، ويقول: “ليس من المتصوّر-أليس كذلك؟- غير هذا بعد نحو ألفي سنة من التشتّت والاختلاط، لاسيما إذا تذكّرنا-وهو اعتبار مهمّ للغاية- أنّ كلّ قوّة يهود الشتات حين خرجوا من فلسطين بعد هدم الهيكل الثاني لم تزد عن 40 ألفًا وهذا الرّقم وحده يكفي ليوحي -رغم كلّ قيود العزل والاضطهاد- بأنّ يهود الشتات الأصلاء قد ذابوا وانصهروا وضاعوا في محيط الهجرة كقطرة في بح، وأنّ يهود العالم اليوم في سوادهم الأعظم هم أجانب متحوّلون أكثر منهم يهودًا متجوّلون”. وقد أشار الأنثروبولوجيّ المخضرم “فيلكس فون لوشان” أنّ “من بين اليهود المُحدَثين نحو 50 بالمائة عراض رؤوس، 11 بالمائة ذوو بشرة بيضاء، وما لا يزيد عن 5 بالمائة يتّفقون مع ما عرفنا أنّه النّمط السّامي القديم”.

هذا بذاته ما يتّفق تمامًا مع ما تؤكّده دراسة حديثة جدًّا قام بها في العام الأخير فقط أنثروبولوجي بريطاني هو جيمس فنتون على يهود إسرائيل توصّل فيها إلى أنّ 95 بالمائة من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة، وإنّما هم أجانب مختلطون ومعتنقون لليهودية لاحقا، فهم أقارب الأوروبّيين والأمريكيّين، بل هم في الأعمّ  الأغلب شريحة منهم، لحمًا ودمًا، وإن اختلف الدّين.

رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)

بداية الاحتلال

يقول ليو موتسكن أحد مفكّري الحركة الصّهيونيّة: “فكرتنا هي أنّ استعمار فلسطين يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان يهودي في أرض إسرائيل، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراضي خارج البلد. وقد يبدو ترحيل هذا العدد الكبير من العرب أوّل وهلة غير مقبول من النّاحية الاقتصاديّة، لكنّه مع ذلك عملي. إنّ إعادة توطين سكّان قرية فلسطينيّة في أرض أُخرى لا يتطلّب كثيرًا من المال” [التطهير العرقي في فلسطين إيلان بابه، 15]، وهكذا كانت منذ البداية أهداف الحركة الصهيونيّة استعمار أرض فلسطين وتكثيف الاستيطان فيها مع إخراج أهلها إلى أماكن أخرى وما زالت حتى اليوم تقام مستوطناتهم ويهجر الفلسطينيون من أرضهم.

بعد الحرب العالميّة الأولى وسقوط الخلافة العثمانيّة قامت بريطانيا بدعم المشروع الصّهيوني لفلسطين سنة 1918 فقام وزير الخارجيّة البريطاني اللّورد بلفور بإعطاء وعد للحركة الصّهيونيّة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مع التعهّد بحماية حقوق السكّان غير اليهود أي الفلسطينيّين الذين هم السكّان الأصليّون والأغلبيّة في وطنهم.

كان من الطّبيعي رفض هذا الوعد من الجانب الفلسطيني والعربي، إلا أن الهجرة اليهوديّة تزايدت نحو فلسطين وتوسّعت المستعمرات ممّا زاد خوف الجانب الفلسطيني الذي رأى أن القبول بوعد بلفور سيكون أفضل كحلّ أوّلي مع استمرار المفاوضات، إلا أن الصهاينة رفضوا ذلك مع دعم الاحتلال البريطاني لهم، فكانت النتيجة اندلاع ثورة فلسطينيّة سنة 1929 ممّا جعل الجانب البريطاني يلين للمطالب الفلسطينيّة ولكن اللّوبي الصّهيوني قام بإعادة توجيه الحكومة البريطانيّة للوفاء بوعدها له، فاندلعت ثورة جديدة سنة 1946 قامت السلطة البريطانيّة وقتها بحشد قوتها العسكريّة ووأد هذه الثورة بكلّ قوّة مع نفي القيادات الفلسطينيّة المشاركة فيها. في هذه الأثناء كانت الحركة الصهيونيّة تستعدّ لاجتياح الأراضي الفلسطينيّة ووضعت خطّة ممنهجة لهذا، بدءا من إنشاء منظّمة عسكريّة صهيونيّة تحت مسمّى الهاغاناه التي أنشأت سنة 1920 بمساعدة ضبّاط بريطانيين قاموا بتدريب هذه المنظّمة على الاستراتيجيّات العسكريّة، وازدادت المنظّمة خبرة عندما شارك العديد من أعضائها في الحرب العالميّة الثانية مع الجيش البريطانيّ.

كان هدف الحركة الصهيونيّة واضحًا ووضعوا الخطط الممنهجة للوصول لأهدافهم، أمّا المسلمون -في الجانب الرسمي- ما زالوا في سبات أمام مخططاتهم اليوم، فالعالم بأسره يخطّط ويبحث عن الإستراتيجيّات المناسبة ويضع أهدافًا مستقبليّة ويوحّد الجهود لتحقيقها، أما حكام المسلمين فأغلبهم يبقى بلا حراك مؤثر، ومنذ العقد الثاني من هذا القرن توجهوا لاتهام المقاومة في فلسطين بوصفها بالإرهاب والعمل مع الصهاينة على تفكيكها.

في فبراير/شباط 1948 قرّرت بريطانيا التخلي عن فلسطين وإحالة القضيّة للأمم المتّحدة بهدف مواجهة التدهور الاقتصادي والتفرغ لإعادة بناء البلاد بعد الحرب العالمية، وهو ما كان فرصة لدول أخرى قوية -كالولايات المتحدة- لتتخذ من وجود إسرائيل موقعا متقدما لتدمير موقع العالم العربي واحتمالات نهوضه. أمّا المقاومة الفلسطينيّة الآن فقد فهمت الدّرس واختارت السعي والعمل في سبيل الله والدّفاع عن أرضها بنفسها لأنّ الإنسان إن لم ينتصر بنفسه فلا حق له في انتظار شفقة الآخرين لدعمه.

وعد بلفور

مجازر لا تنتهي

قامت القوات الصهيونية في فلسطين منذ ما قبل إعلان دولتهم بقتل وطرد الفلسطينيّين من أراضيهم بلا رحمة ولا شفقة، وظهرت بشاعة هذه العمليّات على سبيل المثال في مجزرة دير ياسين حيث ينقل لنا المؤرّخ إيلان بابِه قائلا: “عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشّاشة، متسبّبين بقتل كثير من سكّانها. ثمّ جمعوا بقيّة القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتُصِب عدد من النّساء ثمّ قُتلن.. ويكفي أن يعلم المرء أنّ ثلاثين طفلاً صغيرًا كانوا بين ضحايا المجزرة في دير ياسين، ليدرك كم أنّ الحذلقة “الكميّة” برمّتها- التي كرّر الإسرائيليون استخدامها حديثا في نيسان/ أبريل 2002 فيما يتعلّق بمجزرة جنين- لا معنى لها. إنّما في ذلك الوقت، أذاعت القيادة اليهوديّة بافتخار رقما مرتفعا للضحايا كي تجعل من دير ياسين نذيرًا للنّكبة، تحذيرًا للفلسطينيين كافة من أنّ مصيرًا مماثلاً ينتظرهم إذا رفضوا أن يتركوا بيوتهم ويهربوا.” [إيلان بابه، ص: 101- 102]

تواصلت عمليّات القتل ونسف البيوت ومحو الوجود الفلسطيني في كلّ مكان لتدخله قوات الصهاينة ثمّ امتدّت هذه العمليّات إلى المدن وكانت البداية مع مدينة طبريّة التي تعرّضت لقصف عنيف حتى ترك الكثير من الفلسطينيون بيوتهم هربًا من هذا القصف المستمرّ، وبعد سقوط هذه المدينة تحولت وجهة القوات العسكريّة اليهوديّة إلى حيفا بهدف تهجير 75 ألف فلسطيني منها وقد تمّ ذلك في نيسان/أبريل 1948، وفي هذه الأثناء كانت القوات البريطانيّة مازالت في ميناء حيفاء الرئيسي يستعدّون للانسحاب النّهائي في مايو 1948، ورغم ذلك لم يتدخّلوا لإيقاف التطهير العرقيّ في حيفا حيث هرب سكّانها، وتركوا منازلهم وحاجياتهم، نحو الميناء من أجل إيجاد قوارب تنقلهم لأماكن أخرى آمنة وبسبب الفوضى العارمة والتّدافع نحو الميناء قرّرت القيادة الفلسطينيّة تجميع النّاس في السوق القديمة من أجل تنظيم عمليّات الهروب وما إن وصل هذا الخبر للقوات اليهوديّة إلاّ قاموا بنصب مدافعهم وقصف هذه السّوق بمن فيها من السكّان العزّل الفارّين، وبعد هذه المجزرة عبّرت القيادة الفلسطينيّة عن استيائها من موقف القوات البريطانيّة التي كانت مكلّفة بحفظ النظام داخل المدن الفلسطينيّة.

ما حصل في صفد لم يكن مغايرًا فطُرِد سكّانها الفلسطينيون البالغ عددهم 9500 قسرًا من بيوتهم، وما حصل بمدينة القدس لم يكن مغايرًا فقامت القوات البريطانيّة بتجريد الفلسطينيين من أسلحتهم مقابل الدّفاع عنهم ولكن سرعان ما نكثوا العهد، غير أنّ القوات العربيّة المنظّمة، بقيادة الأردن أوقفت هذه العملية ودافعوا عن أجزاء من المدينة، إلى جانب دفاعهم عن الضفّة الغربيّة التي سقطت في يد اليهود سنة 1967، لتكون حصيلة اليهود في القدس تطهير ثمانية مدن وتسع وثلاثين قرية تمّ طرد سكّانها منها مع إزالتها من الوجود وبناء مستعمرات يهوديّة مكانها.

لم تتوقّف عمليّات التطهير هنا بل تواصلت وشملت قرى أخرى مثل المنشية، وبيار عدس ومِسْكة الكبيرة وذكر المؤرّخ بابِه في كتابه أنّ ما بين 30 مارس و15 مايو احتُلّت أكثر من 200 قرية وطرد سكّانها وهذا كلّه قبل تدخّل الجيش النّظامي العربي في فلسطين، الذّي لم يُحدث فرقًا كبيرًا وكانت النتيجة تهجير أهالى  247 قرية سنة 48 إلى غزّة التّي تُمثّل 1% من مساحة فلسطين وتبلغ حاليا الكثافة السكّانيّة في غزة ما يقارب 7 آلاف شخص في الكيلومتر مربع!

ماذا اليوم؟

يُجاهد اليوم هذا الجيل نُصرة لحقّه ونصرة لدينه بكلّ ما في استطاعته وعلينا نحن كمسلمين أن نكون في صفّهم لا مُتخاذلين، فالكيان الصهيوني مُحتلّ ومُجرم والصّراع اليوم تحوّل إلى صراع بين الحقّ والباطل فلا نكن من المُتخلّفين. ولنا مثلاً في المهندسين الشهداء -كمحمّد الزّواري- أسوة حسنة لمن أراد منّا خدمة القضيّة الفلسطينيّة فليجاهد بعلمه فمن لم يستطع فبماله وإيصال المساعدات لأهل غزّة المحاصرين تحت القصف فمن لم يستطع فليجعل هذه القضيّة حيّة بين النّاس يروي تفاصيل تاريخها حتى لا يُنسى الظلم المُسلّط على الأمّة، فمن لم يستطع فليقاطع المنتجات الداعمة للكيان الصّهيوني والمصنعة فيه.

  • حمزة بلقروية
    حمزة بلقروية