تُب! خَلِّ عَنكَ اليَأس!
أعلم -أصلحك الله- أن الذنوب والخطايا لَصِيقَتانِ بالنفس البشرية الضعيفة الخطَّاءة، التصاقَ الشيءِ بمثله، وأنه لا يخلو منها أحدٌ، فالناسُ فيها بين مُقِلٍّ ومُستَكثِر، ولا عصمةَ لأحدٍ سوى أنبياء الله، ولا شكَّ أن المقلَّ خيرٌ من المستكثِر، إلا أنه وكما قيل: «لا كبيرةَ مع الاستغفار، ولا صغيرةَ مع الإصرار»، فميزانُ الفلاحِ حسنُ التوبة، فكلُّنا خطَّاؤون لولا رحمةُ الله، وكلُّنا مُقَصِّرون لولا سترُ الله، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ} [النحل: ٦١]، وقال ﷺ: «وَاللهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» (رواه مسلم). ليبقى أن المحسنَ منا مَن أتبعَ السيئةَ الحسنةَ امتثالًا لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وتداركَ ذنبَه بالاستغفار، وغَلَطهُ بالاعتذار، وانتكاستَهُ بتكرار المحاولة، ويأسَهُ بالأمل، واستغلَّ مواسمَ العباداتِ، وأقامها حقّ إقامتِها، فذلك هو المفلحُ وذلك هو المحسنُ، جعلني اللهُ وإياكَ منهم.
واعلم -هداك الله- أن الشيطانَ عدونا الأولُ والأزلي، يُقسِمُ لنا كما أقسمَ لربِّنا: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17]، فهو من يوقعنا في الذنبِ ثم يتحلّى بندمنا عليه، ثم يوسوسُ لنا فيقول: "لا توبةَ لذنبِكم، ولن يغفرَ اللهُ لكم"، وهو كذبٌ مُرَكَّبٌ، فاللهُ تعالى يردُّ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: ٥٣]. فلا تُلَبِّسْ عليك نفسُك بقولها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، ولا تستسلم لوسوستِه، فاليأسُ من رحمةِ اللهِ ذنبٌ أكبرُ من ذنبِك!
وإنَّ من أحاسنِ الناسِ مَن تركَ شيطانَه، وتجاهلَ غوايتَه، واستعاذَ باللهِ منه كما أمره ربُّه: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، ثم ندمَ كما ندمَ آدمُ عليه السلامُ حين قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، فغفرَ اللهُ له، بعد أن اعترفَ بخطيئتِه، وأقرّ بتقصيره، واستغفرَ لذنبِه، فوجدَ اللهَ عنده معلّمًا له كلماتِ التوبةِ؛ ليتوبَ عليه إنه هو التوابُ الرحيمُ، وإن كان داودُ -عليه السلام- قد استغفرَ، حين خرّ راكعًا وأنابَ، فقَبِلَ اللهُ توبتَه، فنحنُ أولى بالركوعِ والإنابةِ، فلعلَّ اللهَ يتوبُ علينا كما تابَ عليه.
فإيَّاك أن ينسيَكَ الشيطانُ ما يحبُّ اللهُ من التوبةِ والاستغفارِ، وما يكرهُ من القنوطِ واليأسِ، وإن التوبةَ النصوح ميلادٌ يولدُ فيه العبدُ من جديدٍ، وصفحةٌ أخرى يبتدئُها مع ربِّه، يقولُ ربُّ العزةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: ٨]، والتوبةُ النصوحُ -كما قال العلماء- هي: الندمُ بالقلبِ، والإقلاعُ بالجوارحِ، والعزمُ على عدمِ العودةِ، وردّ مظالمِ العبادِ، والاستسماحُ منهم.
ولا أجدُ أحسنَ من رمضان، وهذه العشرُ المباركات، معينًا على ما عزمت، فاغتنمِ الفرصَ وكنْ سباقًا للخيرِ، فلا يعلمُ أحدُنا متى قيامتُه، ولعلنا لا نَلْتَقِي به مرةً أخرى، وتذكَّرْ أن التائبَ هو من اعتذرَ إلى اللهِ وتابَ، واستغفرَ وأناب، وعادَ وما ملَّ، وعملَ وما يئسَ، وصبرَ وما ضعُفَ، واستقوى باللهِ وما فترَ، واجتهدَ وما تعِبَ، فلم يُبدِّلْ طريقَ ربِّه، بل لاذَ بجنابِه، ففازَ وغنِمَ، وذاك ما ينبغي عليك تخلُّقُه.
وبعد فاعلمْ أن البابَ مفتوحٌ حتى تطلع الشمسُ من مغربِها، وما يغلقه عليك إلا شيطانُك اللعين وأتباعُه من الجنِّ والإنسِ وهمًا وكذبًا! وأختمُ مقالتي مُذكِّرًا نفسي وإياك بقوله ﷺ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ.أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» (رواه مسلم عن أنس بن مالك).
-صلاح العياشي.