وقد سألتني -يرحمك الله- عن نهاية العلم الذي يجب أن تَصل إليه، ومن ثم هل تلَقي العلوم عبر الشبكة العنكبوتية كافٍ بنفسه! أم أن هنالك ضرورة لقراءة الكتب والتراجم؟
فأقول -والله المستعان- : أي العلم تقصد، العلم الشرعي أم العلم الطبيعي (الدنيوي)؟ وهل أنت تعمل بما تعلم، لأن من شروط العلم العمل، لا سيما العلم الشرعي، تذكر قول عائشة رضي الله عنها: “يا ابن أخي لا تكثر حجج الله عليك“.
وعلى كلٍ؛ فلا طرف للعلم أيًا كان نوعه وتخصصه، فإننا والله في رحلة من العلم لا تتوقف، وسؤالك متى يجب أن تتوقف، أو متى ستصل؟ قد يُفهم منه أنك تقرأ دون رغبة، والشغف عنك بعيد، فالإنسان إذا أحب شيئًا، تمنى دوامه، وكره انقطاعه، وما تعجل في انتهائه، ثم من يصل لطرف العلم فإنه بحرٌ لجي، لا يبلغ طرفه، ولا يحد مداه، لذلك يستحيل لمن أحب العلم، أن ييلغ درجة التَّشبع والاكتفاء، فالسؤال يولد سؤالًا وأسئلة، والفكرة تولد أفكارًا وإجابات، وهكذا تتوالد المعارف والعلوم، ولا يمكن إيقافها أو إنهائها، ليبقى شغف البحث عن الإجابة محيطًا بك إلى ما لانهاية، وإنهم ليقولون العلم ثلاثة أشبار؛ من دخل في الشبر الأول ظن أنه قد علم كل شيء، ومن دخل في الشبر الثاني؛ علم أنه قد جهل أشياء، وعلم أشياء، ومن دخل في الشبر الثالث؛ أدرك أنه لا يعلم شيئًا، أو كما قالوا، وهذه حقيقة العلم فمتى شعرت أنك قد اروتيت منه، واكتفيت فاعلم أنك ما زلت في طرفه الأول، فامضِ إلى أعماقه لتعرف!
وأما سؤالك -أكرمك الله- عن الأخذ من الشبكة العنكبوتية، فإنه وإن كان حسنٌ إلا أنه لا يغنيك بحال عن التلقي من يدي العلماء مباشرة، فذلك أتم وأجمل، ولا يلغي ضرورة الترقي من الكتب، فالعلم أجل من يأخذ من مطالعة الصفحات، وتقليب المواقع، ولن تجد بغيتك في ذلك مهما قرأت أو طالعت فاذهب للأصل ولا تسأل.
وأما القراءة من الكتب -أعزك الله- فإنها الخير كله، وهي سر العلم، وهي منبعه ومنبته، لكن يلزم أن تكون منضبطة، فليست كل القراءات خير، ولا كل القراءات نافعة صاحبها ومبلغة له مراده، فبعضُها وبالٌ على صاحبها وشرٌ مستطير، ولا يُدرى ربما كانت سببًا في انتكاسته وفساده -والله المستعان- لذلك لابد تكون على منهجية متكاملة، تتشارك فيها مع الثقات من أهل العلم المشهود لهم بالخيرية والصلاح، وعوَّد نفسك أن تسأل قبل أن تقرأ لا سيما في الأمور المتشابهة، والمسائل الجدلية، وفي كل مرة تقرر أن تدخل مجالًا جديدًا! ولا أحسن من أن تقرأ على يدٍ شيخ أو مربٍ؛ يرفعك إن زَللت، ويقوَّمك إن أخطأت، فربما سمعناهم يقولون: "من كان شيخه كتابه، كان خطاؤه أكثر من صوابه" .
فإذا عزمت القراءة، وحددت هدفك من القراءة، جرَّب أن تَلزم نفسك بالانضباط والمنهجية المتسلسلة، فلا تنتقل لمجال جديد؛ حتى تستوفي ما سبقه من مجال، أي يكون لك منه ما لا يسعك تركه، وكما قالوا: "يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق" وهكذا حتى تكون عندك مَلكة تمكنك من التبصر في الأمور والحكم عليها!
وإن كنت تريد التخصص في مجالٍ ما، وغايتك خدمة الأمة ونفع أبنائها، فيجب أن تشغل القراءة التخصصية ما يصل إلى نصف مجموع قراءتك من الكتب والمعارف، وربما أكثر، حينها يمكن أن تكون قد حددت مجالك وتخصصك، وبعدها تبدأ بالعطاء، فأحسن العطاء ما كان بعد تمام الأخذ، فلا يكون بذلك مغشوشًا ولا مخلوطًا، بل عطاء من استوفى! وبعد فهذا ما علمت فإن كان فيه ما ينفعك فالحمد لله، وإن كان خلاف ذلك فمن نفسي والشيطان والعياذ بالله.
والله من وراء القصد.
إرسال تعليق