التدبر في القرآن: كيف تعيش مع آياته؟!
ومن الطرق المعينة لفهم القرآن إلى جانب قراءته مصحوبًا بالتفسير، (وقد كتبت في ذلك مقالة، تحدثت فيها عن ضرورة قراءته مفسرًا، وبينت أن الضرورة تأتي من تباعد الناس عن اللغة العربية الفصيحة، وتطبعهم مع العامة، مما صعَّب فهمه،كفهم الصحابة -رحمهم الله- آنذاك، فكان التفسير موجبًا للفهم السليم). أما اليوم فنتطرق إلى مسألة التدبر، فلِفهم القرآن عليك أن تعيش مع آياته وكلماته، مع سكناته ووقفاته، أن تكون حاضرًا بقلبك ووعيك، أن تمرّ على الآية وأنت مستيقنٌ أنك المخاطب، ونفسك هي المقصودة، وألا يغيب عن بالك أبدًا أن هذا كلام رب العالمين، وتنزيلٌ من عزيزٍ رحيم.
ولن يتحقق ذلك إلا بالتدبر الحقيقي، فتقرأه على مهلٍ، بخشوعٍ وتأنٍّ، فلا تمرّ على كلماته مرور العابرين، ولا تُسرع في تلاوته مرور المعاجلين، فإذا فعلت دون حاجة الحفظ، فلا تحتسب نفسك قد قرأت؛ حتى تعيدها وتتأمل معانيها وتدرك مرادها، فتغوص في أعماق ألفاظه ومعانيه، مستخرجًا الفوائد والعبر، متدبرًا في المواعظ والقصص.
تدبر آيات العذاب والرحمة
فإذا مررت بآيات العذاب، وقفت عندها مستعيذًا بالله من سخطه وعذابه، مستحضرًا عظمته وجبروته، ثم سألتَه مغفرة زلّاتك وعثراتك، وندمت على ما كان منك، وأعلنتها توبةً نصوحًا، لا يصاحبك فيها أصحاب السوء، ولا تتبع فيها خطى الغافلين.
وإذا تأملت في آيات الرحمة، انشرح لها صدرك، وامتلأ قلبك رجاءً في فضل الله، فسألته أن يشملك بعفوه، وأن يكتبك من أهل رحمته، متيقنًا أن السبيل إليها يكون في اتباع أوامره، واجتناب نواهيه. فتزداد حرصًا على الطاعات، وتقوى صلتك بالصالحين، فإن لم تجدهم في واقعك، فالْتمِسْهم في صفحات الكتب، وتراجم السير، وأحداث التاريخ.
القرآن يحدّثك عن نفسه
وحين تتدبر القرآن، تجد أنه يحدثك عن نفسه، ويدلك على عظمته، ويأخذ بيدك لتزداد به يقينًا وتمسكًا، وستزداد عجبًا ودهشة حين تعلم أن لفظة القرآن وما اشتملته من معنى قد ذَكرت أكثر من 450 مرة، منها سبعين موضعًا تصريحًا، وأخرى بألفاظٍ متعددة، وصفاتٍ متنوعة، وما ذلك إلا لعظمته وعلو مكانته، وشدة حاجة الناس إليه، فكن له قارئًا، ولآياته متدبرًا.
التدبر بالصلاة على النبي ﷺ في القرآن
وكما أن القرآن أثنى على نفسه في آياته، فإنه قد ذكر النبي ﷺ في القرآن تصريحًا وتلميحًا في أكثر من 350 موضعًا، مما يدل على عظيم منزلة نبينا ﷺ وعلو مكانته، فهو الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، وجعله خاتم النبيين، وحاملَ هذا النور المبين.
فتتذكر فضله ﷺ في كل مرة يحدثك القرآن عنه، لتصلي عليه بقلبٍ حاضر، وعقلٍ واعٍ، حامدًا الله أن بلّغك دينه على يديه، ووهبك اتباع سنته. ثم تترضّى عن أصحابه، فتشكر لهم جهادهم، وتُقدّر تضحياتهم، وتدعو لهم بما هم أهلٌ له، سائلًا الله أن يجمعك بهم في مستقر رحمته، وأن يجعلك امتدادًا لهم، داعيًا إلى الله على بصيرة، مبلغًا عن رسوله، امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "بلّغوا عني ولو آية".
تدبر آيات الرزق والإنفاق.
وتفعل الأمر ذاته عند قراءة آيات الرزق، فتسأل الله وأنت موقنٌ بالإجابة، أن يرزقك من فضله رزقًا يُغنيك عن طلب سواه، ويعينك على دنياك لتقضي حاجاتك منها، ولتكن سببًا لتُغني غيرك كما أغناك الله.
وإذا مررت بآيات الإنفاق، أيقنت أنك المخاطب الأول بها، فاستذكرت فضل الله عليك، وواجبك نحو نعمه، لتعطي من فضل الله، لعباد الله، عالمًا على يقينٍ أنه سيعوضك خيرًا، وسيضاعف لك الأجر، وأنك في تجارةٍ معه كلها ربحٌ وبركة.
ثم وعاتب نفسك على ما قصرَّت في حق الله عليك، وقلة شكرك لإحسانه إليك، وعلى غفلتك عن النعم التي بين يديك، تلك النعم التي هي عند غيرك آمالٌ وأمنيات، فترى في عطاء الله لك فرصةً للشكر والامتنان، لا للغرور والغفلة.
ولولا خشية الإطالة، لذكرت لك سبلًا كثيرة في التدبر، وطرائق عديدة في التفكر، لكن حسبي أن تكون هذه المقالة مفتاحًا يدفعك إلى البحث عن هذا الباب العظيم، والاستزادة مما أفاض فيه العلماء، فتطلبه في مظانه، ليكون لك مدخلًا إلى عالم التدبر، فتكون من أهل القرآن وخاصّته، وتكون قرآنًا يمشي كما كان نبيّك -صلى الله عليه وسلم-.
والسلام عليك أبدًا.